يصرّون على جهادهم بعد المناصحات، لأنه قيل لهم بأنّ الجنّة في انتظارهم ولو بقتل أبنائنا الجنود، ويعزّي وزير الداخلية صادقاً عطوفاً -في منظر بدأنا نألفه- ذوي الشهيدين، فما جدوى تلكم المناصحات؟ سؤال يطولُ بمقدار الحديث عن نوعية تعليمنا وخُطبنا وخطابنا الثقافي الذي لا ينطلق من سَعةِ ثقافة مدنيّة كاملة، بل ينحصرُ في خطّ دينيّ وحيد الرأي والفهم. يملَّ الناس كثيراً من سؤالٍ تشكَّلَ منذ سنين لا يخرج عن: منْ وراء شبابنا الذين يفجرون أنفسهم ويكفّرون أهليهم، لأسباب منها: كثرة إجاباته، ونشأة أساليب علاجية معيّنة بناء عليها من مناصحات وأحاديث نظرية عن الوسطية، بينما الإجابات لم تكن صحيحة ولا دقيقة أصلاً، فجاءت أساليب العلاج نتاجاً لهذا! طرحُ السؤال أساساً لمْ يأتِ من قلب قاعدة الشعب الذي تشكل منذ عقود طويلة تشكيلاً خاصاً من تعليم دينيّ بحت، حتى صارت هذه القاعدة كافّة متخصصةً في هذا المجال، بحيث نذكر أن المهمّة الأهم والمتميزة لأستاذ الرياضيات أو الرياضة البدنية أو العلوم أو اللغة الإنجليزية حادتْ عن المِهْنيّة إلى الدعوية والوعظية، ولا يُكتفى في هذا بمعلمي الدين، واختلفتْ مهنة التعليم عندنا عنها في العالم، إلى رسالة للوعظ وشبهه، ولم يعدْ يطلقُ عليها مهنة بل صار المعلم رسولاً دون (كاد) الشوقيّة! تعلّمَتْ قاعدة الشعب من خلال هذا. وتعلّمتْ منْ خلال فكر (الإخوان المسلمين)، فقد كان الموقف مع فكرهم، وضدّ المد القوميّ يوماً ما، وكانت مع تلك الحركة عندما قضى عبدالناصر على منظّرهم وصحبه آنذاك -سيد قطب-. تعلمت أجيالنا هنا على أيديهم بعد أن الْتفّوا حول من أيّدهم، وكان أغلب معلمينا ينتمون إليهم، ولم يكن لأحد طلاب المعاهد العلمية ولا جامعة الإمام أن يستطيع مواصلة تعلمه إذا لم يقرأ (معالم في الطريق) لسيد قطب وكتب المودودي وأبي الحسن الندوي. ومن المعلوم أن هذا الفكر الإخواني لم يكن في أساسه للتفجير حتى لو حوى التكفير، والدليل ما نراه اليوم من عدم تكفيرهم أحداً عندما حكموا في بعض بلدان الربيع، غير أن بعض الجماعات الجهادية انبثقت عنه في مرحلة ما في محاولة منها لتحقيق فكرة الحاكميّة. أما قنوات الإفتاء والقيادات العلمية الدينية لدينا، فقد أسهم -ولم تزل- شدةُ أحاديّتها في التضييق على ذوي الفقه والفكر حتى أدى ضيق الخط الديني إلى قوة شحنه وحتماً ستزيد انفجاراته في أي اتجاه. هكذا تشكلتْ قاعدة الشعب، ولم يخرج عن هذا النوع من التعليم سوى من لم يكنْ من هذه القاعدة من أثرياء أو طبقة قادرة أخرى تستطيع بعث أبنائها إلى الخارج في شكل بعثات أو تعليم خاص، وهؤلاء لا يمثلون الشعب بل يمثلون فئتهم. تشكلتْ في داخل مجتمعنا قاعدة اجتماعية ورسمية ناتجة عن هذا النوع من التعليم، وتشكلت في المقابل المنظمات السياسية العالمية من (قاعدة) وغيرها فوجدتْ في هذا النوع من المجتمعات سوقاً تحوي أرضية التقبُّل. وانبرى المتسائلون يستغربون ما يحدث من انتماء بعض من شبابنا إلى الفكر التكفيري التفجيري، مستغربين أن يحدث هذا في مجتمعنا، ورأوا أن هذا ناتج عن خطأ المسار الديني، دون أن يعترفوا أنه ليس بسبب خطأ المسار بل بسبب شدة الشحن الديني في هذا المسار، حين اكتظّ بعضهم دينياً ولكنْ بفكر أحاديّ لا يتّسع لغيره، وكره الحياة الدنيا، ولم يبقَ شوقهم سوى إلى نعيم الاستشهاد بحسب ما عرَّفوه لهم أياَ كان وكيفما كان! جاءتْ بناء على حوادث الإرهاب فكرة لجان المناصحة، فمتى وُجِدَ أحدٌ من المنتمين إلى هذه التنظيمات ركزت هذه اللجنة في مخاطبته والعناية به وبنفس الأسلوب الذي أنتجه أساساً، بينما القضية ليستْ في المسكين الذي تناصحه اللجنة، بل هي أكبر، ولجان المناصحة ينبغي أن تكون أشمل من وزارة الداخلية أو علماء الدين، فتتحول إلى لجان التصحيح العامة في مفاهيمنا الثقافية ديناً يحتمل مذاهب الإسلام، وشؤوناً مدنيّة واسعة سعة أمة وحياة، بمعنى أن تكون هناك لجان عليا لتصحيح مفهوم التعليم، وأخرى لتصحيح مفهوم الحريات في جميع المجالات، لأن الحريات هي الوحيدة التي يمكن أن تعالج الفكر الأحادي القوي الذي أنشأته الوسائل الدينية والتعليمية والاجتماعية السابقة. لجان المناصحة الحالية: علاج لأفراد بعينهم، وليستْ علاجاً للمنتِج، ولا جدوى من هذه اللجان على المستوى الفكري والوعي العام. وقد يكون من المفيد طرح السؤال الأكبر: كيف كانت سياساتنا التعليمية سابقاً؟ وهل كانت خاطئة أم لا؟ وماذا يحتاجه التعليم الآن وكيف يمكن تفعيل التغيير… إلخ؟ أخيراً، أودّ القول: ليست القضية لدى هؤلاء قضية نقصٍ في المفهوم الديني، بل هي قضية زيادة شحنة في الدين تصل حد الانفجارات هنا وهناك، وهي في جوهرها قضية سياسية لم يستطع منظّروها الخروج بشكل سياسي واضح فعبّروا عن هذا باستخدام الدين المُشْرَعِ للكل. وللعلم، فحديثي هذا ليس عن الشباب المساكين الذين تجنيهم قيادات الإرهاب من أحضان أمهاتهم وآبائهم مقابل الجنة والحور العين، حديثي عمّن وراءهم من القواعد التي تدرك أن استخدامها مصطلح (جهاد) استخدام خاطئ لتبرير الظلم كما كان خاطئاً منذ فتنة علي ومعاوية حتى اليوم، وحديثي عن ضرورة فهمنا ما يحدث فهماً من الداخل دون تفسيرات جاهزة لا تمت إلى الواقع بصلة، وأكرر أن أهم ما علينا الاعتراف به: أن القضية سياسية ولا ضرورة لحشرها دينياً، وأنه ينبغي الحديث -في الإرهاب- عن سياسة لا عن دين!