تجدد الاشتباك مؤخرا بين الأجهزة الأمنية وعناصر محسوبة على التيار السلفي الذي يصف نفسه بالجهادي، وأسفر ذلك عن سقوط قتيلين، ليبلغ العدد الإجمالي لقتلى هذا التيار منذ اندلاع الثورة إلى اليوم ثمانية شبان لايزالون في مقتبل العمر. وبالرجوع إلى حيثيات الوقائع، يتبين أن المجموعة السلفية المتمركزة في دوار هيشر، التي اتخذت من جامع النور في حي خالد بن الوليد معسكرا لها، تصرفت بشكل منفرد، خلافا لنصيحة مراجعها الروحية والحركية ممثلة بالخصوص في السيد «أبو عياض» الذي يفهم من تصريحه بأنه قد سبق أن حذر هؤلاء الشباب من مخاطر الانزلاق نحو ردود الفعل. وهو ما يؤكد أن ما يسمى بجماعة «أنصار الشريعة» لم تتحول بعد إلى تنظيم هرمي، يخضع لقيادة تنفرد بالتوجيه والتأطير. ما العلاقة بين الفقر وانتشار السلفية الراديكالية؟ ما يلاحظ في هذا السياق أن شباب هذه المجموعات يتمركزون في الغالب في مناطق وأحياء شعبية مفككة تعيش منذ سنوات طويلة في أوضاع سيئة اقتصاديا واجتماعيا مثل دوار هيشر وحي خالد بن الوليد وسجنان ومنزل بورقيبة وأحياء مبعثرة في سيدي بوزيد والكاف وغيرها. أي أن هناك علاقة لافتة للنظر بين الفقر والتهميش الاجتماعي وبين انتشار الأفكار الدينية المتشددة. ولم يكن هذا الأمر خاصا بتونس، ولكنه سبق أن لوحظ في مصر والمغرب والجزائر واليمن. ولا يعني ذلك أن السلفية لا تنشأ وتنمو في أوساط الفئات المرفهة اجتماعيا، إذ تكفي الإشارة في هذا السياق إلى الحاضنة الرئيسة للسلفية المعاصرة، التي تتمثل في دول الخليج، أو استحضار شخصية بن لادن الذي لم تحل ثروته الطائلة وانتماؤه السابق إلى حركة الإخوان من أن يصبح رمزا لأكثر التيارات السلفية تشددا وتحريضا على العنف، لكن هذا الاستثناء لا يقلل من ضرورة دراسة الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي تساعد على توفير القابلية لدى ضحايا منوال التنمية المنتج للتهميش والفقر لقبول الأفكار الأكثر راديكالية على الصعيدين الديني والسياسي. بالتالي لم يخطئ بعض الباحثين عندما لاحظوا بأن الحركات الإسلامية مثل الإخوان المسلمين ومن شابههم هم في أغلبيتهم من أبناء الطبقة الوسطى، في حين يعتبر السلفيون في الغالب بمثابة بروليتاريا الظاهرة الإسلامية الحركية. إن الخلفية الاقتصادية والاجتماعية للظاهرة السلفية مسألة مهمة ومكملة للبعد الديني والثقافي. ولهذا فإن الاكتفاء باعتماد المعالجة الأمنية المحدودة لن يساعد إطلاقا على معالجة هذه الظاهرة، التي تستوجب الاستنجاد بعلم الاجتماع إلى جانب وضع خطط مدروسة تكون قادرة على احتواء هذه الظاهرة قبل أن تزداد خطورة وتعقيدا. بين السلفيين والنهضة جدار لا يزال سميكا يخطئ من يعتقد بأن السلفيين جزء من لعبة تديرها حركة النهضة لصالحها. صحيح أن الأستاذ راشد الغنوشي قد حرص ولا يزال على احتواء هذه الجماعات، وعمل على إقناعها بأن مصلحتها الأساسية تكمن في دعمها للمشروع السياسي لحركة النهضة الذي يصلح حسب اعتقاده ليكون بمثابة المظلة الواسعة التي تغطي جميع مكونات الساحة الإسلامية بجميع فصائلها. لكن الأحداث كشفت بأن هذا الرهان وإن حقق بعض النتائج الجزئية، إلا أنه قد فشل في تطويع الفصيل الأعلى صوتا داخل الدائرة السلفية، وبالأخص جماعة «أنصار الشريعة» الذين لهم أجندة مختلفة عن أجندة النهضة، ويتهمونها بخيانة «المشروع الإسلامي»، وأنها أصبحت تتلقى «الأوامر من أمريكا» مقابل أهداف حزبية ضيقة حسب اعتقادهم. وأنها تريد أن «تضمن الانتخابات المقبلة على حساب دماء السلفيين». وهو ما جعل الحوار بينهم وبين حركة النهضة غير ممكن، خاصة بعد سقوط عدد لا بأس به من القتلى. لقد أصبحت حركة النهضة المتضرر الرئيس سياسيا من تصرفات السلفيين، وانزلاقهم التدريجي نحو العنف. وهو ما جعل العلاقة بينهما تتسم بالتوتر والشك المتبادل، كما أنه من غير المستبعد أن تتجدد الاشتباكات بين الطرفين، رغم محاولات التهدئة وتقريب وجهات النظر بينهما. تدخل العقلاء فهدأت العاصفة رغم أن الأحداث المتسارعة تدفع نحو المواجهة الشاملة بين هذين الفصيلين، إلا أن عديداً من القياديين في الجهتين يسعون للحيلولة دون ذلك. فعلى سبيل المثال حذّر رياض الشعيبي عضو مجلس الشورى، حركة النهضة والتيّار السلفي من الخوض في «معركة خاطئة» يسعى لتأجيجها حسب اعتقاده «عدّو وهمي لضرب النهضة بالسلفية». ويتقاطع ذلك مع ما ورد في رسالة التهدئة التي وجهها الشيخ الخطيب الإدريسي إلى أبناء التيار السلفي،الذي يحظى بمكانة خاصة لدى السلفيين، وذلك حين قال لهم «إن المسلم المخالف لأخيه المسلم ليس عدوا»، ودعاهم إلى العمل جميعا «على تفويت الفرصة على العدو الحقيقي الخارجي الذي يدير المعركة معنا بربائبه في داخل البلاد». ويقصد بالمخالف حركة النهضة. ويبدو أن دعوات التهدئة قد لقيت صداها في صفوف مجموعة حي خالد بن الوليد التي أدركت بعد أن فقدت اثنين من عناصرها أنها أخطأت تقدير العواقب، وأنها انجرت في معركة خاسرة بسبب قلة خبرة بعض شبابها. هدوء حذر.. إلى حين هكذا يتبين أن النية تتجه نحو طي صفحة أخرى من صفحات المواجهة الجزئية بين السلفيين وحركة النهضة. وبقدر ما يمثل ذلك مؤشرا إيجابيا يفتح المجال لشيء من الأمل في استبعاد شبح العنف الفوضوي وإدخال البلاد في حالة عدم الاستقرار، إلا أن احتمال حدوث مفاجآت غير سارة يبقى قائما. وهو ما يستشف من كلام أبي عياض الذي ختم رسالة التهدئة التي توجه بها لأنصاره بترديده لتهديد واضح موجه للسلطة ولحركة النهضة في قوله «اتقوا غضبة الحليم». ولهذا يعتقد كثير من النهضويين أن المواجهة مع هذا التيار الراديكالي قادمة لا محالة، وهو ما دفع بالشيخ عبدالفتاح مورو إلى توجيه نداء إلى مختلف القوى السياسية للوقوف إلى جانب حركة النهضة في معركتها ضد التطرف الديني.