بنهايةِ هذا اليوم يكون قد انقضى شهرٌ تقريباً على السؤالِ الذي تم طرحه على معالي وزيرِ التعليمِ العالي عبر مقالٍ حمل العنوان التالي: (معالي الوزير: لا نريد جامعة!)، وبصراحة لم أكن أتوقعُ أن يكونَ السؤالُ صعباً إلى الحدِ الذي تحتاجُ معه وزارةُ التعليمِ العالي وقتاً أطول من أجلِ الإجابةِ عليه، لأنه كان في منتهى البساطةِ والوضوح: (إنني فقط أريد أن أفهمَ المعيارَ الذي تعتمد عليه وزارتُه في توزيعِ الجامعات؟)، ولأن السؤالَ كان عن شيء كائن لا سؤالاً عن شيء لم يكن، فالإجابةُ عليه من المفترضِ أن تكونَ جاهزةً، فمن غيرِ المعقولِ أن تكونَ وزارةٌ بحجمِ وزارةِ التعليمِ العالي تعملُ طوال هذه السنين دون معاييَر واضحةٍ وخططٍ مرسومة، والواقع أني حين تحدثتُ عن توزيعِ الجامعاتِ آثرتُ أن أتجنبَ المقارنةَ بشكلٍ مباشر، ولم أرد تسميةَ محافظاتٍ افتُتحَت فيها جامعاتٌ كان من الواجبِ أن تُفتتحَ في مكانٍ آخر، مع يقيني أن الجميعَ مدركٌ بأن هناك محافظاتٍ تم تجاهلُها بشكلٍ تام، وما دعاني لعدمِ التسميةِ هو أني لا أريد الوقوعَ فيما أود التحذيرَ منه ولئلا يُنظَر إلى ما أقولُ على أنه من باب العنصريةِ المناطقية، فمن السذاجةِ أن أطالبَ بجامعةٍ لأماكن معينةٍ دون غيرِها لأن الوطنَ في نظري غال من أقصاه إلى أقصاه؛ لا فرق بين شمالِه أو جنوبِه ولا شرقِه أو غربِه، وكذلك فإني لا أعتقدُ بوجودِ إنسانٍ يعيشُ في القرنِ الواحدِ والعشرين يستسيغُ تنميةً تقومُ على الرغباتِ والمطالباتِ والنزوات، أكثر مما تقوم على الدراساتِ والإحصائياتِ والخططِ والأرقام، تنمية قد تكون مستساغةً في العرفِ العشائري، لكنها مستهجنةٌ في عرفِ المجتمعِ المدني والعملِ المؤسسي، فهذا المنطقُ في نظري بدائيٌ قد تأنفُ العملَ به حتى تلك القبائلُ البدائيةُ في حوض الأمازون التي يُقدَر العمرُ الحضاريُ الذي يفصلُها عن بعضِ الدولِ في العالمِ الأول ِبأكثر من عشرين قرناً! أما الحديثُ بلغةِ: (أنا ومن بعدي للطوفان) فإني والله أستحي من استعمالِها في مخاطبةِ مجتمعٍ يكادُ المرسلُ والمستقبلُ فيه سواء من حيث الثقافةِ والفكرِ، مجتمع نسبة الأميةِ فيه تكاد تقتربُ من الصفر، وعدد مستخدمي شبكاتِ التواصلِ الاجتماعي فيه يُعَدُ الأعلى على مستوى العالمِ العربي. صدقوني لا أهدفُ من هذا المقال إلى محاولةِ استنطاقِ المسؤولين في وزارةِ التعليمِ العالي، ولا اللطم على تجاهلهِا الفظيع لبعضِ أجزاءِ هذا الوطن، بقدر ما أودُ الإشارةَ إلى أن الاعترافَ بالذنبِ والإقلاعِ عنه خيرٌ من التمادي في الباطلِ والإصرارِ عليه، وإني أرجو من صميمِ قلبي أن يكون صمتُها نابعاً من الإحساسِ بالمسؤوليِة وتأنيبِ الضمير، لا صمتاً مبنياً على التجاهلِ، فقبل سنتين قدمَ وزيرُ العدلِ الياباني استقالتَه لمجردِ أن قال هازلاً شبه جاد: (ليس عليَّ سوى تذكر عبارتين، يمكنني استخدام أي منهما في البرلمان عندما أكون في حاجة إلى إجابة)، وهما (أمتنع عن الإدلاء بتصريحاتٍ بشأنِ قضيةٍ محددة) و(نحن نتعاملُ مع المسألةِ على أساسِ القوانين والأدلة)، كما أودُ التذكيرَ بالنداء الذي وجهه وليُ العهدِ السابقِ الأمير نايف بن عبدالعزيز -رحمه الله- حين طالبَ الجهاتَ الحكوميةَ بالردِ فوراً على كلِ ما يكتَبُ عنها في وسائلِ الإعلامِ، مبيناً أن السكوتَ من قبلِ الجهاتِ الحكوميةِ يعني إقراراً بما تم نشرُه وتأكيداً له، وعلى هذا الأساسِ فلا يجبُ أن يكونَ الحديثُ في هذا المقالِ تكراراً لما سبق، بل الواجبُ أن يكونَ عن مرحلةِ ما بعدِ الاعترافِ بأن وزارةَ التعليم العالي تسيرُ بطريقة (مشِّ حالك)، وأن ليس باستطاعتها الإجابةُ عن أسئلةِ الناسِ بشكل منطقيٍ، لا عباراتٍ فضفاضةٍ تعني كلَ شيء بما يعني أنها لا تعني أيَ شيء على الإطلاق مثل تلك التي أشار إليها وزيرُ العدلِ الياباني -آنف الذكر- ومع ذلك حطَّت به من عَلِ، فهذا العملُ بلا ريب لا يُستساغ وتلك الغلطةُ لا تُغتفر، وفي نظري أنها لو حدثت عن قصدٍ فهي جريمةٌ تستوجبُ العقوبةَ، وإن حدثت بغيرِ قصدٍ فهي تقصيرٌ يستوجبُ المساءلةَ، بيد أنه في الحالتين لا شيء يحفظُ للناسِ أقدارَهم ويعيدُ للدولةِ هيبتهَا أكثرَ من التجديدِ في الوزارة؛ فالوطنُ فوق الجميع ولا أحدَ خارج المساءلةِ (كائناً من كان).