ذكر النائب الكويتي مسلم البراك أن أحد النواب الفاسدين وجدوا في حسابه أربعة ملايين دينار (52 مليون ريال) في وقت قصير نسبياً، فلما سأله أحد القياديين عن ذلك أخبره بأن والدَته قبل وفاتها قد أوصته ببناء مسجدين لها، وحين انتقلت إلى رحمة ربها وجد في (كبتها) أربعة ملايين دينار!، فما كان من ذلك القيادي إلا أن أقسم له: والله لو فتحتَ رأسي واتجهتَ إلى الفص الأيمن من المخ ووضعتَ فيه تلك المعلومة فلن أصدقها. لا أدري هل هناك وجه للشبه بين ما ذُكر أعلاه وما ذكرته صحيفة عكاظ في عددها رقم (3876) بتاريخ (4/ 3/ 1433) من أن وزارة العدل قد وقَّعت عقداً لتطوير موقعها الإلكتروني بقيمة (168) مليون ريال، مع العلم أنها (أي الوزارة) قد أوضحت فيما بعد أن ذلك ليس خاصاً بموقعها فقط وإنما يشمل جميع الدوائر الشرعية التابعة لها. لكن الأكيد هو أن تلك الحادثة هي أول ما استحضرت في مخيلتي وأنا أقرأ ذلك الخبر. فلو أن العقد الذي أبرمته وزارة العدل كان من أجل تقنين القضاء وحوسبة المحاكم وكتابات العدل ووضع حد لتلك الصكوك العتيقة التي وصل أطوال بعضها إلى المتر؛ فإن من الممكن أن يُستساغ الخبر ويُهضم. أما أن تكون عملية تطوير موقع إلكتروني وبعض المشروعات الإلكترونية الأخرى، بهذه التكلفة فهو يدفعنا لأن نتساءل عن ثمن المشروعات الكبرى التي تطلقها الوزارة، ويزيد من خشيتنا على مصير المليارات السبعة التي خُصصت لتطوير القضاء، ليس من قبيل التشكيك في الذمم والأمانة، ولكن من قبيل أولويات صرف هذه الميزانية، وغايتنا هنا التساؤل عما إذا كان لدى وزارة العدل أولويات في تطوير عملها، لأن تخصيص هذا المبلغ من أجل تطوير موقع أو عدة مواقع إلكترونية هو في أقل الأحوال هدر مالي، حيث إن من الترف أن تقوم بتطوير موقعك الإلكتروني في حين أن موظفيك بحاجة إلى تنظيم عملهم والمحافظة على أوقات دوامهم، فما فائدة أن يقوم المواطن بحجز موعده إلكترونياً، ثم لا يجد من يقوم باستقبال طلبه عند المراجعة! إن من المؤسف أن وزارة العدل وعلى الرغم مما رصد لها من ميزانيات ضخمة، ما زالت من أكثر الوزارات تعطيلاً للمعاملات وقتلاً للأوقات وبدائية في الإجراءات وكل ما فيها يشعرك أنها تسير (عليك يا الله)، إذ ليس فيها نظام واضح يحكم عمل القضاة ولا الموظفين، والأحكام فيها متفاوتة بشكل كبير، ومن يتعامل معها لا يدري فيما إذا كانت معاملته ستُنجز في يوم أو أسبوع أو سنة، ولا يعرف حداً أدنى أو أعلى لما سيحصل عليه من أحكام، فما قد يكون متعارفاً على أن إنجازه في أي مكان من العالم يتطلب أسبوعاً كحد أقصى قد يستغرق معها شهوراً أو أكثر، بدعوى أنها الأكثر حرصاً على حقوق الناس وعلى تطبيق شرع الله، وربما تتحدث مع أحد الفضلاء عن النظام فيرمقك بعينه ويمتعض ثم يزجرك قائلا: أيُّ نظام.. أصلحك الله؟! متناسياً أن العدل البطيء ظلم، وأن شرع الله أسمى من أن يأمر بتعطيل مصالح الناس والفوضى. فيا الله... كم نشوه الدين من حيث نريد الدفاع عنه! إنني حين أتحدث عن العدل في وزارة العدل فإني (كمستبضع التمر إلى هجر)، وهو ما قد يبرر ذهولي وعجبي واستغرابي وبحثي عن الجزء المفقود من النّص، إذ ما زلت أعتقد أن هنالك أصفاراً دخلت على سعر التكلفة بشكل خاطئ، حيث أتحدث عن جهة لها قيمتها واحترامها وما ترسخ في الأذهان عنها أنها بعيدة كل البعد عن الشبهات وأحسب أنها كذلك؛ ولكن إذا وُجد الفساد فيها -حتى على قلته متمثلاً في حالات فردية- فهو مؤشرٌ خطير على أننا قد وصلنا إلى مرحلة متقدِّمة منه لا يُجدي معها الصمت أو التجاهل أو الإنكار. لكن عزاءنا الوحيد هو أن الدولة أبدت حرصاً فوق العادة في قضية الاعتراف بمواطن الفساد والإقرار بوجود الفاسدين وتجريدهم من الحصانة عند الحاجة كما في قضية الصكوك المشبوهة في منطقة الباحة، ففي مسألة القضاء لدينا إطار نظري رائع مصدره الكتاب والسُّنَّة وجانب إجرائي أقل منه بدرجة كبيرة مع الأسف الشديد؛ وهو ما قد يفسر درجة الثقة التي كان عليها معالي وزير العدل وهو يتحدث في أمريكا عن القضاء في المملكة، لكن هل بإمكان معاليه دعوتهم إلى زيارة محاكمنا ورؤيتها كما هي عليه في الواقع؛ خصوصاً أنه من قال:(إننا من أسرع الدول في إنجاز القضايا)؟!