ذكر ابن هشام في السيرة ما رواه ابن إسحاق في مشاورة الرسول (صلى الله عليه وسلم) أصحابه في معركة بدر الكبرى، من أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال للرسول (صلى الله عليه وسلم): يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء بالقوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم): لقد أشرت بالرأي. في أيامنا هذه وبسبب ثورة المعلومات وتنوع وسائل الاتصالات من الشبكة العنكبوتية والإعلام الاجتماعي والشبكات الاجتماعية (Facebook) (Twitter) والمدونات، وغيرها من وسائل الاتصال المختلفة، أصبح المواطن، الذي قد يكون جالساً في بيته (بالفانلة البيضاء والسروال الأبيض)، يحسب له ألف حساب ليس من قِبل مؤسسة معينة (الشركات والجهات الحكومية ومنظمات المجتمع الأهلي… إلخ)، بل أصبح قادراً على إحداث تغيرات على مستوى الفرد والمجتمع والدولة والعالم برمته، سواء كان ذلك التأثير سلبياً أو إيجابياً. لذا انطلقت فكرة تفعيل المشاركة بواسطة التكنولوجيا في الحياة العامة من خلال القناعة بإمكانية تحسين الأداء الحكومي وإثراء الحوار وتمكين المواطن عبر فرضية غاية في الأهمية، وهي أن الناس أذكياء ولديهم الرغبة في العمل معاً. القطاع الخاص كعادته كان سباقاً في توظيف الفرضية السابقة عبر التشاور الإلكتروني ضمن ظاهرة ما يُعرف بالاقتصاد التشاركي wikinomics للوصول إلى قرارات أفضل، متجاوزاً مراكز الخبرة المؤسسية. على سبيل المثال، قامت إحدى الشركات شركة (آي بي إم) بعقد دورات حول التفكير الإبداعي باسم world jams، التي تسمح فيها للعاملين حول العالم بتقديم المبادرات وتحسينها بشكل جماعي. كما خطط الرئيس التنفيذي للشركة ذاتها بتوفير صندوق بقيمة مائة مليون دولار لتنفيذ أفضل عشر أفكار تم التوصل إليها في عصف ذهني جماعي عبر الإنترنت. على الصعيدين العالمي والإقليمي، تجري استشارات أيضاً بين المنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني بشأن السياسات الكبيرة. على سبيل المثال، البنك الدولي يقوم باستشارة الجمعيات الأهلية بشكل مستمر، كما حصل عندما استفاد البنك في استراتيجيات تخفيض أعداد الفقراء، فأصبح التحاور في المنظمات الدولية من الأمور الشائعة حتى عند إعداد تقارير التنمية التي تصدر كل عام. على مستوى المبادرات التطوعية العالمية، موقع Wikipedia وهو موقع موسوعي بل يمكننا القول إنه يمثل أكبر تجمع للمعرفة والمعلومات، نلاحظ أن صيانة وإنشاء هذا الموقع يتم بواسطة متطوعين يقدمون خدماتهم بالمجان من كل أنحاء العالم وبواسطة التشاور الإلكتروني التعاوني. وهكذا تطور مفهوم (التشاور الديمقراطي) عبر زمن التجربة الإنسانية، فهو اليوم يمثل شكلاً من أشكال التعاون المشترك في الشأن العام والمبني على فرضية فلسفية هي: تقوية مشاركة المواطنين في اتخاذ القرار السياسي والتنموي والاجتماعي. وهو يشير أيضاً إلى نموذج إبداعي هدفه زيادة انخراط ومشاركة المواطنين في إبداء الرأي لمختلف القرارات. فعندما تتم الاستعانة بالناس لاستشارتهم في قضايا تعنيهم بشكل مباشر فإن درجة تحمل المسؤولية الجماعية لديهم تكون أكبر. ومن جانب آخر، فإن التشاور الحر يعدّ قفزة في الممارسة الديمقراطية، فهو يهدف إلى التخفيف من عيوب الديمقراطية التمثيلية من خلال تعزيز دور المواطن الذي لا ينبغي أن يبقى دوره منحصراً فقط في الحق في التصويت أو الترشح في المجالس البلدية والنيابية والبرلمانية. بل يمتد ليشمل الحق في المتابعة وتقديم المشورة والتقييم. بمعنى آخر هو عملية تفعيل حقوق المواطن من حقوق موسمية تبدأ مع كل استحقاق انتخابي وتنتهي بانتهائه إلى حقوق دائمة ومستمرة تمارس بشكل يومي ومباشر. فإذا كانت الديمقراطية التمثيلية موسمية فإن الناس هنا لا ينتهي دورهم بمجرد انتهاء الاستحقاق الانتخابي، لأن التشاور الحر نشط وشفاف وواعٍ ومستمر. إنها تعزيز لفكرة الديمقراطية بمنهج جديد يقوم على استغلال التكنولوجيا، ويتضمن التفاتة رائعة إلى الانتقال من ثقافة تؤمن بالخبير الواحد إلى أخرى تتبنى (تجارب حل المشكلات) بشكل جماعي عبر قطاع عريض من الأفراد المشاركين. التشاور الحر يعزز ثقة الناس بأنفسهم، وأن المعلومات والخبرات ليست حكراً على المحترفين. ففي كثير من الأحيان يكون الاعتماد على المتخصصين وحدهم سالباً، لأن اجتماعاتهم لا تكون علنية فيفتقر إلى الشفافية ويترتب عليه اتخاذ قرارات سرية في غرف خلفية، وقد تُنتهك فيه روح وحقيقة المشاركة الجماعية. نعم في بدياته المعاصرة كان يرتكز نموذج التشاور الحر على (ثلاثة) أطراف رئيسة هى الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني. أما الحكومة: فدورها يتمثل في وضع الإطار القانوني والتشريعي الثابت والفعال لأنشطة القطاع العام والخاص والأهلي على حد سواء. أما القطاع الخاص: فيمثل المورد الرئيس لفرص تشغيل الأيدي العاملة على المستويات كافة، إضافة إلى أهليته لتحقيق التنمية الاقتصادية. أما المجتمع المدني: فهو مجموعة التنظيمات الاجتماعية التطوعية الحرة التي تعمل فى استقلال نسبي عن المؤسسات الإرثية مثل الأسرة والعشيرة والقبيلة من ناحية، وعن الحكومة ومؤسساتها من ناحية أخرى. أي أن تنظيمات المجتمع المدني كيانات وسيطة بين الحكومة والعائلة. بل هي قلب الحياة الاجتماعية المنظمة، الذي من أهم سماته التطوعية والعطاء والاعتماد على الذات والاستقلال، وكأن العالم اليوم يحقق مقولة الفيلسوف الروماني (شيشرون): إن الحرية هي اسمى المعاني، وإن هذه الحرية لا تكون واقعة حقيقة إلا إذا كانت متاحة للجميع ويتمتع بها الأفراد المكوّنون للدولة. فقط رغبت التذكير بأن المسجد -تاريخياً- قد اقترب من ممارسة فكرة التشاور الحر بشكلها الإنساني والعفوي، فلم يكن دوره محصوراً عند أداء العبادات، بل كان له دور سياسي وثقافي واجتماعي وتنظيمي وقضائي، فالمسجد ربى الأبناء على روح الجماعة والاتحاد، وكان بمثابة مؤتمر مصغر لطرح مشكلات الأمة وإيجاد الحلول لها.