لا أعرف أين قرأت موضوعا حول خوف الكتّاب من السفر، أو ربما سمعت حديثا عن خشية المشاهير من السفر بالطائرات. وبين من ذُكر اسمهم في هذا الشأن عبدالعزيز المقالح الشاعر والكاتب اليماني والشخصية المشهورة عربيا.خطر ببالي الموضوع، وأنا أقرأ له كتابا جديدا صدر عن دار الساقي تحت عنوان (كتاب المدن/ جدارية غنائية من زمن العشق والسفر). في هذا الكتاب مايزيد على عشرين قصيدة، كل واحدة منها تتغزل بمدينة سبق أن قصدها الشاعر. لعل في الأمر مفارقة، أو ربما تكتسب تجربة السفر هنا طابع المغامرة وتحدي المخاوف، ولكن النصوص عن الرحيل والمدن،تكاثرت في الأدب العربي في السنوات المنصرمة،حتى ان العنوان ذاته تحمله مجموعة لأدونيس،و للغرض نفسه. الأدب العالمي المعاصر يحفل بأعمال عابرة للمكان المحلي، فعالم اليوم أصبح صغيرا، كما لم يكن من قبل، ووسائل الإتصال الحديثة ضيقّت من فضاء العلاقة بين مكوناته ولغاته وأناسه، فأصبح سرد المدن يعني التراسل بين النص والقارئ السائح في الأفكار والقيم والثقافات التي تنتجها الأماكن. المدن التي يكتب عنها عبدالعزيز المقالح، ليست مكانا موصوفا فقط،بل تقع في جغرافيا الوجدان والعاطفة، والتعقيبات الملحقة بالقصائد تؤرخ مواقيت الزيارات ومناسباتها، وتقرأ في العمران علاقات الثقافة،ولكنها قبل كل شيء تقدم الكاتب نفسه، في إختياراته وفي تقلبات مزاجه، في موقفه السياسي، وفي تصوره ونظرته الى العالم. في القصيدة الأولى يحدد الكاتب مفهومه عن المدينة في صياغة تنحصر بين تشبيهين : المرأة والبحيرة، وما يجمعهما من إضطراب وهدوء : ((مدن الأرض مثل النساء،/ ومثل البحيرات / غاضبة/ صلفات،/ وأخرى، / كما الضوء في همسة/ ناعمات.)). نصه عن المدينة يقدمه الى القارئ في مفتتح السؤال عن الاستطاعة (كيف لي)،فكل المدن التي زارها طواها الزمن في ذاكرته المتعبة، فكيف له استحضارها ((كيف للجسد المتشقق/ أن يتحسس نار المدينة/ وهي تعاكسه، / بعدما خمدت ناره/ واشتوت، في مساء الدموع)).نبرة الصدق في قصيدة المقالح تجعل تضاريس اللغة مكشوفة، لا يتعب القارئ في تلمس ذبذبات مشاعرها. وهكذا يبدأ من أول المدن : مكة والبيت العتيق، حين دخلها حاجاً مع أبيه، وكان في التاسعة عشرة من عمره (سيدة الفراديس وأم الربيع، الذي يخرج من مرايا الصيف والشتاء) تضيق المسافة بين النثر والشعر في عاطفة الوجد التي يكنها الى مكة ((كأنك نهر من الودّ/ يجري الى أبد، / لاتحدده الأرض/ أو تستطيع إكتناه الجدار الأخير)).. القاهرةودمشق وبغداد وأثينا وروما والقيروان ومراكش وبيروت، يتجول الشاعر في ذاكرة الشرق والغرب، بين فينا وبرلين وعدن والقدس، كل تلك المدن بقيت رهن عاطفة تعود في مستقرها الأخير الى صنعاء، مدينته التي علمته حب المدن الاخرى. في هذه النصوص لكل مدينة بؤرة يتحرك حولها الشعر، فباريس (حرّيّة للأبد) موطن السهر والأنوار التي تلوح في صباح لاينتهي حتى هزيع الليل الاخير،و برلين مشطورة بين بقايا حروب واستراحات جمال وترف (لها جسد معدني/ وآخر من مطر)، وفينا تعود به الى ماقال فيها علي محمود طه، حالمة ترقص على سمفونية موزارات ((دخلت اليها / على كف أغنية/ تترقرق حلما/ وتورق حين تعود / الى عطشي شجنا/ وحنينا)).. وفي القاهرة يحتاج الشاعر حبرا بمقدار ماء المحيط، ليكتب أفراحها وميراث أحزانها ((إهبطوا (مصر)،/ لكم ما تشاؤون/ من خبزها / وأساطير بهجتها../ هنا سوف يغفو الزمان،/ وتنسى الكواكب/ والشمس منزلها)). يدخل المقالح الى مصر من بوابات ثلاث، أوسعها بوابة عبدالناصر والنداء الضارب في خلايا الروح العربية (أرفع رأسك يا أخي). دمشق وبغداد نافذتان الى الروح، كما يقول، ولكن الشاعر يسأل عن سر حبه لهما. في قصيدة دمشق يرد اسم بغداد وفي نص بغداد يرد اسم دمشق، توأما العروبة. ((يقرأ عبرهما كل ما صنع الله/ بالأخوة النازلين هنا وهناك / وما صنع الله من قبل، / من بعدُ/ والآن بالمبتلاة العروبةء.)). من هنا يمكن ملاحقة تواريخ القصائد، فالحدث السياسي يؤشر الى زمن كتابة القصيدة، حين يقول عن بغداد التي صمدت بوجه المغول ((ستبقين شامخةً ببنيك الأشاوس / بالأوفياء، / ولن أتردد أن أرفع اسمك / عاصمة للعروبة، / كل العروبة/ في زهوها بصمودك/ في زهوها بشوائك للمعتدين/ الغزاة)). وعندما يدخل الشاعر مراكش، يكتشف انه لم يزل مقيماً بصنعاء، فكل مطرح فيها يذكِّره بأنس بلدته وحميميتها ((تلك مراكش الأمُّ / سوف أقبّلها باسم صنعاء/ في شفتيها، وأمضي وفي القلب شوق/ الى ساحة لاتمل الغناء)).. وهكذا يمضي المقالح في رومانسية الشيخ الماكث في زمن للشعر، مرت عليه العصور ومابرح وفيا الى وجدان الشاعرية الأولى. المحبة التي يضفيها الشاعر على المدن، تتخذ معنى التسليم بذاكرة المدينة ذاتها،تلك التي تستمد محاسنها من تراكم الأقوال عنها، فليس هناك من قياس يمضي الى قلب التجربة وحرث سطحها. وعدا قصيدة مكة التي تشير الى تجربة خاصة، تبدو القصائد مستكملة تمامها، على نمط متسق، تعيد الكتابة كتابته ناقصا او مكتملا.