يهبطُ الدين في المجتمعات ليقدّم حلولاً مُلهمة، وإجابات شافية لأسئلة وجودية مُلحّة وعميقة يطرحها عقل الإنسان، كما يأتي الدين أيضاً كي يكون مُكرّساً وحاضاً على عديد من القيم التي تنشأ في تلكمُ المُجتمعات. على أن من أكبر الإشكاليات التي يعاني منها مجتمعنا هي إشكالية أدلجة الدين، أي فهمه كنسق فكري معياري يتم توظيفه كأيديولوجيا شمولية قاهرة تلِجُ إلى جميع الجوانب، والحقول، وتنظرُ إلى الأشياء بنظرة محض دينية! من هنا يبدأ تحوّل الدين، إذ لم يعد يطرح نفسه بوصفه مُنشغلاً بتهذيب الفرد وإصلاحه، ومدّه بغذاء روحي يحتاجُ إليه، وإنما بوصفه خطّاً فكرياً معيارياً تجاه الأشخاص والأشياء! والحال إن ثمة أسباباً عميقة وراء أدلجة الدين، واتخاذه هذه الصورة، إذ من الجلي أن الواقع الثقافي – ومفرداته – الذي كان محضناً للوعي الديني في مجتمعنا، كان السبب الجوهري وراء ذلك، تُضاف إليه أسباب تاريخية وأخرى اقتصادية تتعلق بنمط الإنتاج، والأساس الاقتصادي الذي يعتمد عليه المجتمع. وفي ظل الوضعية الحالية للدين، وهي وضعية متناغمة ثقافياً مع المجتمع، وفي ظل اختلاط المفاهيم وتداخلها، أصبحنا نفهمُ الإنسان المُتشدّد، والمتبنّي لأيديولوجيا الدين، على أنه تقيّ! بل إن التقي أمسى بالضرورة مُتشدّداً، والمُتشدّد بالضرورة تقياً! وهنا المعضلة، ذلك أنه من الممكن جداً أن يكون هناك تقي متسامح، كما هو الحال بالنسبة إلى جمع غفير أدركناه من الكهول في قرى وأرياف عسير الذين كانوا غاية في التقى والصلاح، وغاية في التسامح أيضاً! ومن دون ريب فإن مرد ذلك هو دينهم الذي كان انعكاساً لبيئتهم الريفية، وحياتهم التي كانت سابقة على أدلجة الدين وتصوراته كما هي الآن! لقد كان دينهم ديناً مختلفاً لأنه كان ديناً يهتم بتهذيب النفس، والاشتغال بإصلاحها، وليس ديناً يهتم بالآخر، ويشتغل بنفيه، ومعاداته. لم يعد الدين ديناً بل أصبح نسقاً فكرياً من أولوياته وأركانه النظر إلى الآخر، والمزايدة عليه، والمفاصلة معه. هو نسق يحاكمُ كل الأشياء وفق منطق الحلال والحرام، أو الإيمان والكفر، أو السنة والبدعة! هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلأن الدين قد بات أيديولوجيا فقد خَسِرَنا روحانيته العظيمة، تلك الروحانية السامية التي كنا نراها في صلاة أولئك الكهول، وخصالهم، وسماتهم، وصمتهم الذي كان صمتاً مُذهلاً يُخفي أرواحاً طيبة، متواضعة، كريمة. المتشدد لا يعني أن يكون تقياً، كما لا يعني أن يكون روحانياً أيضاً، لأن التشدد في صميمه أمرٌ عقلي مردّه العقل والفكر، أما الروحانية فمردها القلب والنفس! ولأجل ذلك فقد ينتهك المتشدّد جميع المحرمات التي حرّمها الدين عينه، ولكن ما إن تتم مناقشته في مسألة خلافية إلا واتهم خصمه في دينه، ورماه بالكفر، والزندقة، والضلال. علاوة على ذلك فإن المتشدد قد يكون ممتلكاً لخصالٍ مقيتة جداً كأن يكون قاتلاً سفاحاً كما يفعل الإرهابيون، أو ظالماً ومُبرّراً للظلم والظالم كما يفعل متشددون آخرون! إذن من غير الممكن أن يكون ثمة قاتل أو ظالم وفي الوقت عينه يكون تقياً وروحانياً بل هو متشدد، ومتطرف فحسب!