أكثر من ثلاثة أشهر قضاها الرئيس العراقي في رحلة علاج ونقاهة في ألمانيا، وكأنها ثلاثة دهور على العراقيين الذين ينتظرون قدومه الميمون؛ ليعالج لهم أمورهم «الخربانة» ويضع بأنامله المكتنزة «التعبانة» حداً للأزمات الكثيرة التي ورطوا العباد والبلاد فيها، الكل يترقب وصوله إلى أرض الوطن بأحر من الجمر، ليجمع شمل الإخوة الأعداء في مؤتمر سلام موسع بعد فترة من الخصومات السياسية والمنازعات الطائفية والعرقية التي إن استمرت على هذا المنوال فإن البلاد على وشك الدخول في حرب أهلية لا تُبقي ولا تذر، كل العراقيين بانتظار ما تسفر عنه محاولات الرجل الذي هدّه المرض وأتعبته السنون وهم يأملون فيه خيراً.. صحيح أن للرئيس تجربة طويلة في العمل السياسي وإدارة الأزمات والمفاوضات وله القدرة على جمع المتناقضين لكن في التجربة العراقية لن يستطيع أن يفعل شيئا لأن الثقة مفقودة تماما بين الشخصيات والأحزاب والكتل السياسية، ومن المستحيل إعادتها إلى وضعها السابق إلا إذا «تفركشت» العملية السياسية من أساسها وأعيدت صياغتها من جديد على أساس الشراكة الوطنية الحقيقية، وهذا طبعا مستحيل تحقيقه على أرض الواقع برأي معظم المراقبين والمحللين السياسيين، فالرئيس طالباني كما صرح أحد السياسيين لإحدى وسائل الإعلام «لا يمتلك عصا سحرية لحل الأزمات الراهنة التي يرتبط حلها بجاهزية الأطراف المعنية بها «والأطراف المعنية غير جاهزة أبداً للاستجابة لطلب الرئيس، وأول إشارة رفض لمبادرته جاءت من عند رئيس الإقليم «مسعود بارزاني» الرجل القوي الثاني في العراق، وذلك من خلال سفره المفاجئ تزامنا مع عودة الرئيس، لتظهر أنه من المستحيل الجلوس مع «المالكي» في مكان واحد ما لم ينفذ بنود اتفاقية أربيل التي ألزم نفسه بها أولاً وقبل أي شيء، كما صرح بها مرارا وتكرارا، وقد حقق «بارزاني» في سفره الطارئ هدفين اثنين، أولاً أظهر رفضه القاطع لمبادرة رئيس الجمهورية، ثانيا تمكن من رد الصاع صاعين ل «طالباني» ويثأر لنفسه من موقف مماثل قام به ضده في ذروة صراعه السياسي مع «المالكي» عندما أراد مع القوى المعارضة الأخرى مثل «القائمة العراقية» و»التيار الصدري» بزعامة «مقتدى الصدر» أن يسحب الثقة من رئيس الوزراء «المالكي» وكاد أن ينجح ويطيح به لولا موقف «طالباني» السلبي «وهروبه» -بحسب تعبير السياسي الكردي المخضرم محمود عثمان- من عملية سحب الثقة في آخر لحظة ورفضه تقديم تواقيع أعضاء البرلمان المطالبين بسحب الثقة من رئيس الوزراء إلى المجلس الوطني وفق سياقات الدستور المتبعة مغادرا الوطن بحجة المرض.. على الرغم من رغبة العراقيين المُلحَّة في وضع حد لحالة الغليان السياسي في البلاد التي أثرت بشكل ملحوظ على أوضاعهم المعاشية والأمنية، فبالإضافة إلى انعدام الثقة بين العراقيين، فإن جملة من العوائق تحول دون نجاح المهمة، ومن أهم تلك العوائق؛ المشكلات العالقة بين الحكومة المركزية وحكومة الإقليم وعلى رأسها؛ المادة 140 الدستورية التي تعالج مشكلة الأراضي التي استولت عليها الحكومات العراقية المتعاقبة من الأكراد عن طريق عمليات التعريب والتبعيث والترحيل وعدم تطبيق بنودها لحد الآن رغم مرور أكثر من سبع سنوات على إقرارها، وكذلك مشروع النفط والغاز المركون في دكة البرلمان العراقي منذ 2007 ولم يصوت عليه، مما نجم عنه تراجع صناعة النفط في البلاد، وكذلك مسألة تأسيس مجلس السياسات القومية العليا المنصب الرفيع الذي خُصص لزعيم القائمة العراقية «إياد علاوي» بموجب اتفاقية أربيل (2010) الذي وافق عليه رئيس الوزراء «نوري المالكي» كشرط أساسي لتوليه السلطة للمرة الثانية ولكنه بعد أن أحكم قبضته على الحكم، قلب للشركاء السياسيين ظهر المجن ولم يلتزم بها وتنصل منها، ولو أن السيد «المالكي» نفذ ما جاء في اتفاقية أربيل لما وصلت الأوضاع إلى هذا الحد من التعقيد.. وفي هذا الصدد يقول «محمد اللكاش» النائب عن كتلة المواطن المنضوي في التحالف الوطني الحاكم إن «ولادة الأزمة السياسية في البلاد بدأت بعد اتفاقية «أربيل» التي أبرمها رئيس الوزراء نوري المالكي وزعيم القائمة العراقية إياد علاوي ورئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني في أربيل إبان تشكيل الحكومة وقعوا هؤلاء الثلاثة على تنفيذها وسميت حينها اتفاقية أربيل.. ولكن «المالكي» لم يقم بتنفيذ فقراتها لأنها «لا تنسجم مع الدستور!!» وهذا مبرر ساذج وغير مقنع للتهرب من المسؤولية القانونية والأخلاقية تجاه الاتفاقية، كان الأولى ب «المالكي» أن يعترض على فقرات الاتفاقية التي تعارض الدستور! قبل الموافقة عليها لا أن يعترض عليها بعد التوقيع وبعد أن أصبح رئيسا للوزراء بموجبها.. بعد كل هذه المشكلات والأزمات الخطيرة التي تهدد العراق في وحدته واستقراره وتضعه على حافة الانهيار والحرب الأهلية، وبعد الثقة المعدومة بين العراقيين، هل يستطيع رئيس الجمهورية «جلال طالباني» ذو ال 82 ربيعاً، أن يوصل العراق إلى بر الأمان؟.. أنا أشك في ذلك!