أتقن عمّنا عبدالله البردُّوني تقنية «التوحد» بأبطال قصائده توحّداً مجنوناً. لقد نفذ الشاعر اليمني الضرير إلى دواخل الشخصية البشرية في الفقير والأرملة واليتيم والمناضل السابق والمُخبر والمسؤول الفاسد. وتجرّأ حتى على تقمّص دور ابن المرأة سيئة السمعة، ولكن بلغة فنية خلاقة. وبدلاً عن استخدام الوصف الشعري كما فعل أسلافنا الشعراء؛ توحّد البردُّوني بأبطاله، وتحدّث بلسانهم كاشفاً عن رؤية حساسة في تشريح الواقع وهجائه. ويُمكن لأي قصيدة من قصائده أن تتجوّل في شوارع وطنه راصدةً الصدمات التي يُمنى بها البسطاء والمسحوقون في الأزقة والبيوت الجائعة. وعلى سبيل الإشارة؛ فإن في قصيدته «لصّ تحت الأمطار» نموذجاً مجنوناً لتقنية التقمّص التي ظهر البردُّوني عبرها لصاً جائعاً يخرج في ليلة ممطرة باحثاً عما يمكن سرقته. إنها جولة «حرامي» صغير، تكفيه سرقة ساعة أو مذياع أو مبلغ ضئيل. والفرص كثيرة، ولكن الحواجز خشنة: فهنا إقطاعيّ دسِمٌ وهنا إقطاعيٌّ أسمَنْ هذا ما أعتىْ حارسَهُ بل هذا حارسُهُ أخشنْ اللصّ مثقل بالحاجة، مسكون بالرغبة، مصرٌّ على الخروج على القانون، لكنه مجرد لص صغير، صغير جداً، وقدَر اللص الصغير أن يواجه حواجز كبيرة: كلّ الأموال مسلّحةٌ بفنون الإرهاب المتقّن وحين يفكّر اللص الصغير بقدْر حجمه؛ فإنه يعثر على عجوز ثرية.. عجوز وارثة. ولكن اللصّ الصغير قد يكون لديه ضمير كبير، أكبر من حاجته الخانقة: هل أغشى منزلها أغشى؟ فلعلّ فوائده أضمنْ لا لا، فيهِ جُبنُ امرأةٍ وأنا لو أخنقها أجبنْ خيارات اللصّ الصغير محدودة دائماً، ومحصورة في احتياجات صغيرة، وتختنق الخيارات أكثر حين يتجولُ اللصّ في مدينة كبيرة تُشبه بحراً من الفقراء تطفو فيه سفينة يسكنها الأغنياء الأقوياء الذين بإمكانهم أن يسرقوا تحت الأضواء ولا يُسجنون.