بلغة الصّم والبكم و(العُرج) والعميان. بلغة النّبلاء والحمقى والمهبولين و(العوانس) والأرامل والأيتام والبالغين والقصّر. بلغة الشياطين والمجرمين والشامتين والصادقين والكاذبين والمسالمين والمحايدين والمناضلين والزاهدين والطامعين والمتشددين والمعتدلين. بكل لغات الرؤوس (الصّلعاء) وغير الصلعاء والوجوه والخشوم و(المناخر) والآذان والشفاه والألسنة والخدود والذقون الرطبة واليابسة والناعمة والخشنة و(الرقاب) الطويلة والقصيرة، والصدور والخصور المتوجة والناحلة والبلهاء، والأيدي والأظافر والسيقان والأصابع المتجمعة و(المفردة)، والمرايا الصافية المختومة..المرايا المشطوبة والمكسورة والمحدّبة والمجروحة و(الملساء) التي لم تَبُحْ بالسر يوماً لشاطبها وكاسرها وجارحها. بلغة (الأذان) والأجراس والأبواق والتراتيل والابتهالات والتضرّع والدعاء والصلوات. بكل ما في هذا العالم الموجوع بعالمه من لغة الصوت والضوء، النور والظلام، الظُّلم والعدل، الثلج والنار، الجمر والرماد، الحركة والسكون،الصراخ والهمس، المشي والحبو، الركض والهرولة، القفز والتسلق و(الانبطاح)، العوم والغرق، الصعود والهبوط، الموت والحياة. بلغة كل شيء، كل شيء في العالم السفلي والعالم العلوي و(البرزخ)، وبلغة كل لا شيء أيضاً.. بلغة الوجود والعدم، والخلود والفناء هنا وهناك وهناك وهنا. بلغة اللغة ذاتها كلاماً مباشراً وإشاراتٍ خفيّة. فما الإنسان سوى لغة، وما الكون إلاّ لغة، وما الحياة غير لغةِ تتشكّلُ وتتبدّلُ وتتنوّعُ وتتعدّد، وعندما (تَحبِسُ)هذه اللغة نفسها في سجن واحد معزول ومفرد، لا فتحة فيه ولامنفذ لنسمة هواء، فإنّ هذه اللغة تموت، وبموتها يموت الإنسان قائلُها وتنتهي الحياة عندئذ ويتلاشى الكون، لتبدأ لغة أخرى في التشكُّل، لغة أكثر جلالاً وغنىً وصدقاً ووضوحاً وحقاً وعدلاً وقداسةً، تدلُّ الإنسان على (جهله) في الدنيا وكيف يوقعه تعصبه أحياناً في شرك الهوى ولا يكون أمره في النهاية إلاّ (فُرُطا).. بحسب هذا، بحسب هذه الحروف التي تجري الآن من نهر ما تبقّى من حياتي ماء لغة، لم أمتْ بعد، وما دمتُ كذلك، فإنّني، بكل تلك اللغات التي تتوحّد في لغة واحدة هي لغة الحياة، لم أولدْ لأتوقف وأتسمّر وأتجمّد و(ألصق) في مكاني كالتمثال، وإنما لأكون المكان والزمان ذاتهما وأكون كل شيء فيهما. ما خُلِقتُ لآكل وأشرب وأنام وأتزوج وأنجب، فمثل هذا الدور تفعله وتجيده حتى (الفئران). إنني ما وُجِدْتُ لهذا فقط وما جئت إلى الأرض سُدىً، والله، بل أتيتُ لأتأمّل سماء الرحمن ومعجزة الخلق المتناسق الفريد لهذا الكون، ولا أتعبُ أبداً، لأنّ حضوراً صافياً وشفيفاً كهذا هو ما يمدّني بما أُسمِّيه (طاقة المعنى) التي تملأ روحي بحبٍّ لا ينقطع لكون الله وأرضه.. من هنا سأدافع عن هذا الحب، عن أمّنا الأرض من كل الذين يتربصون بها ليجرحوها ويؤذوها ويعذِّبوا أبناءها في معتقلات الضياع والشتات والظلم والحروب والفقر والأمراض.. وأواصل قراءة هذه الحياة عن كثبٍ لنعرف أيّ غفلةٍ نحن فيها طالما «نصدِّقُ أحلامنا ونكذِّب أيامنا»!