ما مدى أهمية النص القرأني في بقاء اللغة؟ وهل اللغة العربية في مرحلة احتضار، سؤال سيبين عن الفاعل الحقيقي في قوة اللغة، لقد عاشت اللغة العربية زمناً طويلاً قبل نزول القرآن, وكانت تحتفظ بكل قدرتها على توليد المعاني الخاصة بالبيئة العربية، فالعرب قبل الإسلام، كانت لغتهم الفصحى في أوج اكتمالها، رغم فقر حياتهم الثقافية، ولم يحتاجوا حتى لتعريب إلا القليل من الألفاظ غير العربية، جاء القرآن فزاد من اتساع اللغة ونقل لها بعض الكلمات الفارسية والهندية وغيرهما، وساعد على انتشارها عبر الفتوحات ودخول المسلمين الجدد. اللغة وعاء وعلى قدرة صاحب الوعاء, قدرته الحضارية والثقافية، تبقى اللغة وتُعَمّر وتطول بها الحياة، بل وتظل شابة تنتج وتخلق وتتجدد، لكن حين يصبح صاحب اللغة وحامل اللغة وهم هنا العرب والمسلمون على هامش الحضارة يتسولون كل شيء، فلغتهم ستحتضر, ومهما كان القرآن كنص محفوظاً من عند الله، لكنه لن يستطيع حماية اللغة من الاندثار أو الانصهار في لغات أخرى، فالمهم هو الإنسان حامل اللغة وقارئ القرآن، هو الذي يستطيع الإبقاء على لغتة حية ثرية, فالدين وكل وسائله من نصوص وشعائر, إذا فشل أهله في النجاح الحضاري المدني، لن يقوى على الحفاظ على لغة نصوصه، فالدين جزء من الثقافة، والثقافة جزء من الحضارة، ومتى نهض الإنسان حضارياً، نهضت لغته وكل شيء له به علاقة. فالإنسان هو المحور الرئيس والاهم الذي تدور حوله كل محاور الحياة. فلن تشفع مناهج تدريس اللغة العربية أو فقه اللغة، ولا التمكين للغة الفصحى كتابة وحديثاً بكل وسائل الإعلام، لن يشفع ذلك كله في إعمار اللغة وتطويرها ونشرها، إذا كانت حضارة اصحابها وثقافتهم هامشية الحضور والتأثير في المحفل الدولي، فاللغة منتج صناعي إنساني, وعلى قدرة تسويق هذا المنتج سيكون الاقبال عليه، فلا تستصحب قداسة القرآن الكريم للغة العربية، ولاتستصحب حقيقة الدين وصلاحيته للغة، فاللغة مرهونة بمدى تفاعل حاملها وصاحبها مع الحياة انفتاحاً وحضوراً مؤثراً، فهل العرب كذلك, فحتى لو تكلم العرب اللغة الآرامية بالحروف النبطية أو اللغة الانجليزية بالحروف اللاتينية وهم على حالهم هذا من التخلف والركض ضد الحياة، فلغتهم أو ما يتكلمون به، ستنحسر, مثل ما انحسرت حضارتهم، وقيمهم وشخصيتهم، ذلك أنهم تعاطوا مع الحياة بلغة الانغلاق وردة الفعل، وهي وسيلة إن صلُحت للشجب والتصويت، فهي تظل أداة فقيرة المعنى واللفظ، مبحوحة الصوت، مخارجها كفعلها مؤقت ظرفي، فهي تموت لحظة انتهاء ردة الفعل. إن اللغة مهما كانت هي منتج حضاري، كالملبس والمأكل والمركب والمسكن، مالم يكن حاملها ينتج أدوات وجوده ووسائل عيشه ويواصل تطويرها لتناسب وقته وعصره وظروفه، فسيظل عالة على لغة غيره وملبسه ومأكله ومركبه، سيعتمد على حضارة الاقوى وبالتالي لغته تظل فقيرة تتسول الالفاظ، أو تعتمد على التعريب والترجمة، وهما تأكيد على العجز في الابداع والابتكار، إن اللغة ليست اداة نطق بل تقنية تفكير ووسيلة لاستيلاد المعاني، بقدر عمل العقل تكون اللغة، وإحدى المؤشرات المهمة على تحضُّر شعب من الشعوب هو علاقته بلغته: كيف ينظر إليها؟ وكيف يتعامل معها؟ ثم كم هي قدرات لغته على التعامل مع نمط الحياة السائد؟، واللغة العربية من هذه الزاوية في مأزق؛ فهي تعيش في ظل حضارة ليست من صنع أبنائها، حضارة شكلت لنفسها نظاماً فكريًّا، وتصورات عقائدية عن الكون مخالفاً في كثير من نواحيه للنظام الفكري الذي عاشت في ظله اللغة العربية، كما أن هذه الحضارة ابتدعت علوماً ومناهج للبحث العلمي لم تألفها الحضارة العربية من قبل، وأنجزت منتجات، وصاحب هذه المنتجات عادات وتقاليد خاصة، كل هذا كان غريباً عن العرب وكان مأزقاً تواجهه اللغة العربية في كل يوم.