لا شيء يُكسب النظام هيبته أكثر من تطبيقه في أوقات الشدة وحالات الاستثناء، كأن يُطبق على أشخاص غير عاديين كالوزراء والمسؤولين الكبار في مختلف الإدارات والمصالح، أو يسري في الأزمات الاقتصادية الحادة وحالات النكبات والحروب، مثلما فعل رئيس الوزراء البريطاني الراحل تشرشل حين امتثل لقرار محكمة جزئية وأصدر قراراً بإغلاق مطار عسكري هام ونقله فوراً إلى مكان آخر، وسط تحذير من إمكانية تعريض سلامة بريطانيا للخطر، واحتمال خسارتها للحرب العالمية الثانية، لكنه قال (لئن تخسر بريطانيا الحرب أهون ألف مرة من أن تخالف أمر القضاء). ولا أعرف شيئاً يُفقد النظام هيبته أكبر من كسره في أوقات اليسر والرخاء، أو التعامل معه بجدية في أوقات وإهماله في أوقات. و لَعدم وجود النظام خير من أن يكون لديك نظام (مزاجي) تطبقه أحياناً وأحياناً لا تطبقه، أو لا يخضع لمعايير الموضوعية والشمولية، لأنه سيتحول إلى أداة قمع وترويع، وسيكون وسيلة ترويض وتطويع، أكثر من كونه أداة من أدوات تحقيق العدالة، ووسيلة من وسائل تنظيم الحياة بين الناس، ومن المخجل أن نجد بعض المسؤولين لدينا يتعاملون مع الأنظمة كما يتعاملون مع ملابسهم؛ يرتدونها متى شاؤوا ويخلعونها متى شاؤوا، حتى صارت الأشياء في أعيننا متشابهة حد الغموض، كما حصل في قضية المعلمين والمعلمات، تلك القضية التي – على بساطتها ووضوحها – قد شرَّعوا الأبواب لدخولها موسوعة جينيس في عدد جلساتها، وعدد أوراقها، وعدد مندوبيها، وغرابة نتائجها. فعندما تصل إلى مرحلة من التشتت والضياع لدرجة ألا تعرف الفرق بين الحقوق والمطالب فإنك تكون قد وصلت إلى مرحلة متقدمة من انعدام الرؤية يُخشى أن تتسبب معها في إحداث كارثة، والخير كل الخير في أن تدع القيادة لغيرك من أجل سلامتك وسلامة الآخرين، فأخطر الحوادث حول العالم سببها قرار متهور أو غبي أو أحمق وحين تجتمع في قرار هذه الصفات كلها تحدث الكارثة، فمن يبحث عن حلول وقتية وانتصارات وهمية ليس كمن يؤسس لمبدأ أو يبحث عن تحقيق غاية، ففي حادثة بيرل هاربر تهور الأميرال الياباني ياماموتو حين قال إنها مرة واحدة في التاريخ يمكن هزيمة أمريكا وبعد ذلك ليكن ما يكون، فحقق نصراً في معركة واحدة ولكن اليابان خسرت الحرب نهائياً!. وكذلك حال اللجنة مع قضية المعلمين والمعلمات، فقد استطاعت تقليل الإنفاق الحكومي على حساب هيبة النظام، عندما تعامت عن الحقوق وكشفت عن عدم قدرتها على التمييز بين من يطالب بحقوقه، ومن يريد مطالب جديدة، إذ أن الحقوق ليس لأحد سلبها ولا تحتاج للجان من أجل دراستها والتعديل عليها، بل إن من واجبات النظام ضمانها لئلا يفقد معناه، وأسوأ من ذلك أن يكون لديك نظام ثم يُبحث عن الحلول من خارجه، كما حدث في ذلك القرار الشهير للجنة الوزارية المكونة لدراسة وضع المعلمين والمعلمات المعينين على مستويات أقل من المستويات التي يستحقونها، حيث لم تجد حلاً أفضل من القيام بإعادة خرق النظام مرة ثانية لعلاج مشكلة نتجت في الأساس من خرقه في وقت سابق، حين طبقت على المعلمين والمعلمات لائحة الوظائف العامة بدلاً من لائحة الوظائف التعليمية، وصرفت النظر عن الفروقات المالية والدرجات المستحقة، فارتكبت بذلك خطأ هو أكبر كثيراً من الأخطاء التي جاءت لمعالجتها، ومن المؤسف أن تكون هذه اللوائح والأنظمة والتشريعات على هذا القدر من الهوان في نفوس من هم أولى الناس باحترامها والتأكيد عليها، فلست أدري أكانت خيبة المعلمين والمعلمات بقرار اللجنة أشد عليهم من خيبتهم في الحصول على حقوقهم أم أن خيبتهم في الحصول على حقوقهم كانت هي الأكبر، ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أنهم قد يئسوا في وقت واحد من إمكانية الحصول على حقوقهم ويئسوا أيضاً من التجاوزات التي تخترق النظام واللوائح، ولسان حالهم يقول: من غص داوى بشرب الماء غصته ... فكيف يصنع من قد غص بالماء؟