تحولت المناطق السكنية القريبة من المواقع الأثرية في مصر إلى بؤر للتنقيب غير الشرعي عن الآثار بيد كثير من الباحثين عن الثراء السريع، وهو ما انتشر بصورة كبيرة في الفترة التي تلت ثورة 25 يناير استغلالاً لحالة الانفلات الأمني. ومن مدينة الشرقية شمالاً إلى مدينة الأقصرجنوباً، يحفر آلاف المصريين بشكل يومي طرقاً وأنفاقاً لأحلامهم الكبيرة في عمق بيوتهم لعل طَرَقات معاولهم توقظ تمثالاً فرعونياً صغيراً من سباتٍ طويل استغرق سبعة آلاف سنة ليغير حياتهم للأبد، لكن المؤسف أن الكثيرين أيضا تنهار أحلامهم تحت بيوتهم ليُدفَنوا فيها. وتنتشر ظاهرة التنقيب غير الشرعي عن الآثار بكثافة في أربع مناطق رئيسية بمصر، هي منطقة نزلة السمّان بجوار هضبة الأهرامات، ومنطقة سقارة جنوبالجيزة، ومنطقة الشرقية في دلتا مصر، وأخيرا في محيط مدينة الأقصر، والتي تقول تقديرات إنها تحتوي على ثلث آثار العالم. ويقول مدير منطقة هضبة الأهرامات، الدكتور علي الأصفر، إنه لاتوجد أي تقديرات على الإطلاق لحجم التنقيب غير الشرعي عن الآثار في مصر، مضيفاً، في حديثه ل»الشرق»، أن الأمر غير قانوني بالمرة وبالتالي يحدث في الظلام بعيدا عن أعين الجميع. نزلة السمّان وعلى بعد مئات الأمتار من مكتب الأصفر، تزدهر عملية التنقيب غير الشرعي عن الآثار في قرية نزلة السمّان حيث يحفر الأهالي تحت بيوتهم أو يحفرون أنفاقا طويلة تربطهم بمنطقة الهرم للبحث عن الكنوز الأثرية المدفونة تحت التراب. وعلى مرأى من تمثال «أبو الهول» في تلك المنطقة، التقت «الشرق» في سرية تامة بمرزوق، وهو شاب ثلاثيني أسمر ونحيف يعمل في التنقيب غير الشرعي عن الآثار. وتنحصر مهمة مرزوق في ربط الأهالي الذين ينقِّبُون عن الآثار في منازلهم بشكل عشوائي بتجار كبار يشترون الآثار المستخرجة من الأهالي الذين يصعُب عليهم تصريفها. وقال مرزوق ل «الشرق» -بعد أن اشترط عدم ذكر اسم أسرته خشية التربص به- «معظم البيوت هنا تمتد أمتاراً عدة تحت الأرض بحثا عن أي أثر فرعوني»، وتابع «البعض يتصور أننا نبحث عن كنوز كبيرة وثقيلة لكن الحقيقة أننا نبحث عن أي شيء له علاقة بالفراعنة يكون له ثمن»، موضحا أن الأهالي يخفون عن بعضهم البعض أنهم يبحثون عن الآثار حتى لاينفضح أمرهم. ويبحث الأهالي عادة عن تماثيل صغيرة، أو عملات معدنية أو أوانٍ ذهبية أو فضية، المهم أن تمت بصلة للفراعنة. وأوضح مرزوق أن عملية البحث عن الآثار مكلفة وخطرة، قائلا «الأمر له تكلفة كبيرة تتمثل في استقدام شيخ وخبير محلي بالمنطقة لتحديد إمكانية وجود آثار من عدمه ثم جلب أدوات الحفر والأخشاب التي يتم وضعها لتفادي تساقط طبقات الرمال عندما تصبح الحفرة عميقة»، مضيفا أن «الأمر كله يحدث غالبا ليلا وفي سرية تامة». ويجرم القانون المصري التنقيب غير الشرعي عن الآثار حيث يعد الحفر في الأماكن الأثرية جنحة، لكن في خارجها ليس هناك مساءلة قانونية، وفي كل الحالات فإن العثور على آثار والبدء في ترويجها يعد جريمة. لكن مرزوق لايعتقد أن المسألة غير شرعية أو غير قانونية بتاتا، قائلا «نحن لا نسرق شيئا، نحن نحفر تحت بيوتنا أو في بيوت أخرى بموافقة أهلها». ويوضح مرزوق أن بيع القطع المستخرجة يتم عادةً للأجانب ولرجال أعمال مصريين كبار، مضيفاً «بعنا يوماً عشرة تماثيل صغيرة جدا بنحو ثلاثة ملايين دولار لمشترٍ أجنبي». عصابات التنقيب وفي منطقة سقارة الملاصقة لهرم سقارة المدرج قرب عاصمة مصر الفرعونية القديمة منف، تتخذ مسألة التنقيب غير الشرعي عن الآثار وضعا مختلفا حيث تسيطر عصابات منظمة على المنطقة مترامية الأطراف. ويقول محمد، الذي تحدث ل «الشرق» شريطة عدم ذكر لقبه، «الوضع هنا منظم للغاية، هناك عصابات منظمة ذات نفوذ تعرف جيدا ماذا تفعل». وتابع محمد، الذي شاهد بعينه جيراناً له يغتنون بُعيد عثورهم على آثار تحت منازلهم، «هنا الناس لديهم هوس بالثراء، الكل يبحث عن أحلامه تحت منزله»، كاشفا عن قيام عصابات البحث عن الآثار بشراء بيوت بعض الأهالي للحفر تحتها وهو ما انتشر بشكل أكبر بعد الثورة. وأضاف محمد «في فترة الثورة كان التنقيب غير الشرعي يتم باستخدام معدات حفر ثقيلة وفي وضح النهار»، مواصلا «الانفلات الأمني فتح الباب على مصراعيه للتنقيب في البلدة». وبعد أن التقت «الشرق» أكثر من أسرة تقوم بأعمال حفر داخل منازلها، رفضت تلك الأسر لاحقا السماح بذكر أي شيء عنها في تقريرنا. انفلات أمني من جانبه، قال مدير مباحث شرطة السياحة لقطاع جنوب الصعيد، العميد حسني حسين، إن عملية التنقيب عن الآثار تضاعفت بعد الثورة بشكل كبير بسبب رغبة الناس في الثراء السريع مستغلين الفراغ الأمني. وتابع حسين ل«الشرق»: «المسألة تتضمن أعمال سحر وشعوذة وفي كثير من الأحيان نصباً واحتيالاً»، موضحا أن كثيرين يتعرضون للنصب من قِبَل دجالين يوهمونهم أن باطن بيوتهم مليء بالآثار ويبدأون في ابتزازهم طلبا لأموال. ويتلقى ملايين المصريين رسائل نصية عشوائية على جوالاتهم تخبرهم بالعثور على آثار وتطلب منهم القدوم بأموال للمساعدة في الحفر وتصريف الآثار، وهي في الأغلب تكون مزيفة وغير حقيقية، وفقا للعميد حسين. وكثيراً ما تشهد عمليات التنقيب غير الشرعي عن الآثار انهيار تلال الرمال فجأة دافنة أحلام الأهالي تحتها بسبب عدم وجود خبرة حقيقية في التنقيب. طرق بدائية بدوره، يقول أشرف محيي الدين، خبير ومفتش آثار مصري في هضبة الأهرامات، إن «عملية التنقيب عن الآثار تتم بطرق بدائية للغاية ولاينتج عنها العثور على آثار إلا في حالات نادرة».ويضيف محيي الدين، الذي يشرف على عمليات تنقيب رسمية عن الآثار، الأمر يحتاج لوقفة حقيقية من الدولة، أعتقد أن الحل لابد أن يكون توعوياً لا أمنياً».ويأمل محيي الدين أن تقوم الدولة بتوعية المواطنين بقيمة الآثار باعتبارها ملك المجتمع وينبغي الحفاظ عليها لا بيعها.