خلال السنوات الأخيرة، كثر التعريض بالعمالة البنغالية في الصحافة المحلية، وبالطبع كان هذا جرّاء تكاثر الجنايات التي اقترفها الكثير من أبناء هذه الجالية؛ الأمر الذي جعل الكثيرين يطالبون بالاستغناء عن هذه العمالة، ومنع الاستقدام من بلدها مطلقاً. حقيقةً، وكمواطن دائم الاحتكاك بهذه العمالة، وجدت لدى هذه العمالة خصلة من أرقى الخصال التي نفتقر إليها نحن معشر العرب! التي ما أحوجنا إليها هذه الأيام. فلدى هذه العمالة طريقة آسرة في الحوار وتبادل الحديث فيما بينهم؛ فبمجرد أن يتحدث أحدهم، تجد البقية يضعون أيديهم متشابكة خلف ظهورهم، منصتين كأن على رؤوسهم الطير، مع ثبات وتيرة صوت المتحدث فيهم. فمع هذا الإنصات المهيب، ليس هناك بالتالي ضرورة لرفع الصوت أو الصياح والجلبة، وبالطبع تختفي كل الإكسسوارات المصاحبة لرفع الصوت، من إرخاء أسفل الوجه تزامنا مع رفع أعلاه وجحوظ العينين. وبالطبع، فمع توافر معطيات الحديث الهادئ، من إنصات، وعدم مقاطعة الحديث، يصبح المناخ مهيأ لتلاقح الأفكار وتفهم وجهات النظر؛ الأمر الذي يحول دون سوء الفهم الذي يترتب عليه سوء الإجابة، ويذكرني هذا بالمثل العربي القديم «أساء سمعاً فأساء جابة»، الذي يكاد ينطبق حرفياً على جل حراكنا الفكري والثقافي والاجتماعي، فتخيل أنك تسأل أحدهم «ما هو المناخ...، فلا تكاد تكمل حتى يفاجئك بقوله «المناخ هو وصف حالة الجو...»، ولو صبر حتى تكمل سؤالك «ما هو المناخ المناسب لزراعة الجزر؟» لأحسن الإجابة!وأذكر عندما كنت ومجموعة من الزملاء في سكن مستأجر، كان لدينا عامل نظافة بنغالي كسول، فضقنا به ذرعاً وطوينا قيده، وطلبنا من عامل بنغالي آخر العمل لدينا، وكان هذا العامل الجديد «مطوع»، ويعمل مستخدم في أحد المساجد القريبة. في خضم هذا التغيير الإداري الطارئ، لم تقف محاولات العامل السابق عن ثنينا عن قرارنا المجحف بحقه كما كان يزعم. فمع دخول العامل الجديد، تفاجأ بوجود العامل السابق، فبدأ بينهما حوار هادئ استمر لقرابة الربع ساعة، خرج بعده العامل السابق، فلما سألنا العامل المستجد عن فحوى الحديث الذي دار بينهما، تفاجأنا بأن الحوار الهادئ الذي دار بينهما هو عبارة عن تلقيه تهديداً من العامل السابق؛ كون هذه المنطقة هي إحدى امتيازاته! عندها حدثت نفسي «لو كان التهديد من شخص سعودي إلى سعودي آخر، تُرى كيف سيكون السيناريو؟!» ولكم أن تتخيلوا!حقيقةً، إن ما يدعو للأسى هو أن الطريقة الشائعة لدينا في الحوار، وما تحوي من سوء إنصات ومقاطعة متكررة وثرثرة وتنميق وتشدق، جعلت معظم قضايانا الفكرية والاجتماعية قيد التعليق. فمثلاً في أحد البرامج السعودية الأسبوعية تجلس مجموعة من الإعلاميين والمثقفين، مستعرضين أبرز ملفات الأسبوع المنصرم، ولست أبالغ حينما أقول إن أياً منهم لا يستطيع الحديث بشكل متصل، ولو لنصف دقيقة دون أن يقاطعه هذا أو يعلق هذا أو يوضح هذا! والمقدم المسكين له في فيصل القاسم أسوة حسنة. حقيقةً، أنصح كل من يريد أن يتعلم فن الإنصات عليه أن يذهب عصر الجمعة إلى البطحاء، ويقف بجانب أول مجموعة من العمالة البنغالية.