نعرض في هذه المقالة مفتاحاً مهماً من مفاتيح فهم القرآن وهو تلمس الجانب الحضاري في آياته، حيث يؤكد “برناردشو” أن الغرب سيدخل حضارة الإيمان عن طريق هذا العطاء القرآني الحضاري المستمر. ولو ركز مفكرونا وكتابنا على إبراز الجانب الحضاري العالمي من القرآن لما اشتغلوا بالحروب الفكرية الواهية التي نشهدها اليوم. تلمس الجانب الحضاري للإسلام يسبقه الوعي بجملة من الحقائق حول الحضارة. أولها أن الأخلاق هي الوقود الأولي لأي حضارة، ثانيها أنه من يعجز عن تقديم رؤية عالمية أخلاقية فهو إلى زوال، ثالثها أن الحضارة مشترك إنساني تشارك فيه كل شعوب الأرض ولا يوجد شعب أحسن من شعب إذا حصل على التعليم والتأهيل المناسب، رابعها أن الحضارة الممتدة لا تقوم إلا على أفراد لا ينتظرون الجزاء العاجل فقط بل الآجل (شبنغلر). الحضارة القرآنية تردم الفجوة بين الفكر والواقع، الروح والجسد، الدنيا والآخر، الأرض والسماء، الشكل والمضمون، العاجل والآجل. والقرآن لم يأت ليلبي حاجة شعب معين بل كل العالم (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ. وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)، ويمكن الحكم على هذه الحضارة من خلال النماذج البشرية التي أنتجتها. وقد بدأت مبكراً ثلة من كبار العلماء والفلاسفة من أمثال فولتير وهيدغر وسارتر وآينشتاين في تلمس هذه الحقائق حول حتمية سيادة الحضارة القرآنية. وقد ألمح الفيلسوف “نيتشه” أنه من الشرق ستشرق شمس الغد، وأنه يسمع الأسد زئير الأسد يخرج منها (ويل لمن يريد الاستيلاء على الصحراء). المفتاح الحضاري لفهم القرآن يقتضي البحث عن الآيات التي تحث على تفعيل الجهاد الحضاري والأخلاقي ضد المفسدين والمحتكرين واللصوص وتجار الحروب، والجهاد ضد الأمراض البيولوجية والاجتماعية، والآيات التي تشير إلى القيم العالمية الكبرى مثل الأخوة والشورى والعدل والإخلاص والتضحية والإحسان والرحمة وروح الجماعة.