لو اعتمدنا أقصى درجات حسن النية وقلنا إن الحوادث السياسية الدراماتيكية المتتابعة التي تجابه إقليم كردستان منذ انسحاب القوات الأمريكية من العراق ليست من تدبير بغداد أو طهران أو كليهما من أجل عرقلة عجلة نهضته الحضارية الناشئة، ونسف تجربته الديمقراطية الرائدة «نسبة إلى باقي المناطق العراقية»وإنما هي نتيجة طبيعية للحالة العراقية المتأزمة ككل، والإقليم جزء من هذه الحالة المحتقنة، فلا توجد لها علاقة بالمؤامرات الداخلية أو الخارجية لا من قريب ولا من بعيد، فإننا سوف نعتبر الزيارة التاريخية «الشهيرة» التي قام بها نائب رئيس الجمهورية «طارق الهاشمي» إلى كردستان، التي تحول فيها «بغمضة عين» من رجل دولة مرموق إلى متهم بالإرهاب، ومن سياسي عريق إلى طريد للعدالة هائم على وجهه في أرض الله، ومطلوب القبض عليه من قبل المحاكم العراقية والدوائر الدولية المعنية «الإنتربول»، مجرد نزهة تمت «بعفوية تامة» ومن دون تخطيط مرسوم بدقة ولا وفق سيناريو متكامل معد سابقا؛ أولا السماح له بالخروج من بغداد، والتوجه نحو إقليم كردستان بكل أريحية، وبشكل طبيعي، وعبر المنافذ القانونية، ودون أي اعتراض حكومي، ولكن ما إن تطأ قدما الرجل أرض كردستان ويصبح في عهدة الأكراد، حتى تنفتح عليه وعليهم أبواب جهنم على مصاريعها، ويصبح المطلوب رقم واحد للعراق، وفجأة تجد «أربيل» نفسها متهمة بإيواء «إرهابي عتيد، قاتل للشيعة»! (أو هكذا صوّرته بغداد للعالم) في مواجهة الغضب العراقي العارم، مطالبة بتسليمه إلى بغداد، وينتهي الأمر «التمثيلية» بتدهور شديد للعلاقات بين الحكومتين، تتبعها حرب باردة لا هوادة فيها مستمرة إلى الآن.. كل ذلك تم بالصدفة البحتة دون تدخل من أحد !!.. ولم نكد ننتهي من فصول هذه الحادثة «المقرفة» حتى ظهرت حادثة أخرى أشد غرابة و»قرفا» منها، وتّرت العلاقة «المتوترة أصلا» بين الحكومتين «بغداد وأربيل» إلى أقصى درجة، والحادثة عبارة عن قرار اتخذه أقطاب الساسة العراقيين بسحب الثقة من رئيس الوزراء العراقي «نوري المالكي» عقب اجتماع ضم «مقتدى الصدر وإياد علاوي وأسامة النجيفي وصالح المطلك» وبإشراف مباشر من قبل رئيس الإقليم مسعود بارزاني، وحضور الرئيس طالباني، ومكان انعقاد الاجتماع كالعادة هو «أربيل»عاصمة الإقليم «حلّالة العقد».. وبعد مداولات مستفيضة، ومناقشات طويلة، وبعد أن أدخلوا البلاد والعباد في أزمة سياسية جديدة لمدة أسابيع، توصل المجتمعون إلى قرار تاريخي مهم وهو سحب الثقة من «المالكي» لأنه دكتاتور محتكر للسلطات، وحانث للعهود، وخائن للشركاء والفرقاء السياسيين.. الخ، ولكن على حين غرة، وبعد أن استوت الطبخة، ونجح «قادة الأضداد» لأول مرة في الاتفاق على هدف واحد موحد دون اختلاف مسبق، تهاوى المجتمعون واحدا بعد الآخر، ولجأ من لجأ إلى الخارج خوفا من «القيل والقال» وكثرة السؤال «المحرج» وعاد من عاد إلى حاضنته «الطائفية» نادما وتائبا عن نزقه السياسي، وخروجه عن الإجماع «الشيعي» ودخل من دخل في صفقات سياسية، أعيد بموجبها إلى منصبه السابق الرفيع، وكأن شيئا لم يكن، وكفى الله المؤمنين شر القتال، وخرج من خرج بتصريحات صحفية «ما أنزل الله بها من سلطان» فور اجتماعه بعدوه اللدود «المالكي»، وقال: إن العراق خال ٍ من الأزمات السياسية، ولا توجد فيه غير أزمة الكهرباء !!.. وكان هذا التصريح «الصادم» هو القشة التي قصمت ظهر المجتمعين في أربيل، فتفرقوا وذهب كل واحد إلى حال سبيله «وكأنك يا أبو زيد ما غزيت» ولم يبق في الساحة غير رئيس الإقليم الذي صرح بدوره، بعد أن رأى القادة «الكبار» وقد انفضوا من حوله، وتركوه وحيدا في مواجهة الحملة الإعلامية المعاكسة غير المسبوقة لحكومة «المالكي» التي تطورت فيما بعد إلى التهديد بالعمل العسكري، وحشد القوات ضده؛ بإن فكرة «سحب الثقة» لم تكن فكرته بل فكرة الآخرين ولكنه اضطر إلى مجاراتهم والعوم على عومهم.. إن كان الأكراد قد وقعوا في قضية «الهاشمي» ضحية الالتزام بالقيم والأعراف الكردية التي تقضي بإغاثة الملهوف، وإيواء وحماية اللاجئ، ومنع تسليمه إلى الجهة التي هرب منها، فإنهم وقعوا في قضية سحب الثقة من المالكي ضحية جهلهم، وعدم إلمامهم بطبائع ونوازع القادة والزعماء العراقيين المتقلبة، وقلة معرفتهم بدوافعهم الحقيقية، وأهدافهم السياسية المبيتة… والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة؛ ماذا سيكون موقف القادة الكرد وبشكل خاص «كاكه» مسعود بارزاني عندما يعرفون أنهم في كلتا القضيتين كانوا ضحية مؤامرة عراقية، اشترك فيها زعماء الشيعة والسنة على حد سواء لتوريطهم في قضايا جانبية تبعدهم عن قضيتهم الجوهرية، وتضع حدا لتوسعهم الإقليمي، واندفاعهم السريع نحو الاستقلال، الذي بات الإعلان عنه مسألة وقت ليس إلا.