في القانون الروماني القديم إذا ارتكب أحد ما جريمة قتل كان هناك نوع من التعاطف مع القاتل فمثلاً إذا كان من أشراف القوم يرفع عنه القتل ويُكتفى بنفيه، وإذا كان من أواسط الناس تُقطع رقبته، وإذا كان من الطبقة الدُنيا كانت عقوبته الصلب ثم تغيّرت بإلقائه في حظيرة حيوان مفترس إلى أن وصلت للشنق، وقبل الإسلام كانت العرب تقتل القاتل بإسراف فكانوا يُبالغون في تطبيق ذلك لدرجة تدفعهم لخوض حروب من الثأر مع أهل القاتل، فجاء الإسلام بتشريعه العادل في عقوبة القتل الذي تم تقنينه في قوله تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (179) [البقرة] و حُكم القرآن الكريم أن يُفعل بالقاتل مثلما فَعل (الحُر بالحُر ) حيث في هذا إبطال لما كان جارياً في جزيرة العرب من أنه إذا قَتل شخص من قبيلة ضعيفة شخصاً من قبيلة أقوى لا ترضى هذه إلا أن تقتل معه أشخاصاً من شيعته حتى لو كان بريئاً أو يأخذون الإنسان بالبهيمة. والإسلام لم يُحَتِّم عقوبة القتل بل خَيَّرَ ولي القتيل بين القصاص والعفو عن القاتل مع أخذ الديَّة « فمن عفي له من أخيه شيء « والمراد بالشيء هو العفو الذي عبَّر الله تعالى عنه « العافي « بلفظ «الأخ « تذكيراً للناس بالإخوِّة البشرية والدينية والمروءة الإنسانية. وفي كل سلوك شاذ وخارج عن المألوف ينتشر في المجتمع يواجه بصمت من الجهات المختصة التي كثيرا ما تُعلق بأن ذلك السلوك لم يصل لحد الظاهرة، ومنذ أكثر من سنتين لوحظ توسع واستغلال كبير في تجارة الديّة التي وصلت إلى ثلاثين مليون ريال منذ أسبوعين وأصبحت تنقذ القتلة من القصاص، ولا أعني هنا القتل الخطأ، أوالذي يحدث من بعض القُصّر، بل أقصد القتل العمد الذي أصبح القاتل ينجو منه بجريمته، فما أن يصدر صك القصاص حتى يحضر أهل المروءة والكرم لفدية رقبة القاتل، ليتغيرالمعنى وراء العفو لوجه الله تعالى، فمثلاً بعد أن صدر صك بحق نزيل بسجن جازان وجهت أسرته بمناشدة أهل الخير لمساعدتهم في عتق رقبتة بعد أن قام بإطلاق الرصاص على آخر أدّى إلى وفاته، وبعد وساطة أهل الخير تنازل أهل الدم مقابل دفع مليوني ريال دية، تمكنت أسرة القاتل من جمع مليون فقط وحين عجزوا عن تجميع الباقي ناشدوا أهل الخير لمساعدتهم، وتكرر السيناريو في أبها حين ناشدت أم قاتل محكوم عليه بالقصاص أهل الخير بعد أن قتل صديقه إثر سوء تفاهم حدث بينهما، حيث إن أهل المجني تنازلوا وعفوا مقابل خمسة ملايين ريال مطلوبة في مهلة لا تزيد عن سنتين، وفي سكاكا وقبل حوالي أربع سنوات وقعت مشاجرة في جنوب البلدة بين شاب وآخر من «الجنسية اليمنية» تطورت المشاجرة الذي كان السلاح الأبيض حاضرا فيها لتتحول إلى جريمة قتل ذهب ضحيتها الشاب اليمني وأودع الجاني في السجن، وبعد وجاهات قبلية عديدة ومساعي حثيثة قام بها «فاعلو الخير» وافق والد المقتول على التنازل، ولكن اشترط أن تكون الديّة 28 مليون ريال لتبدأ تجارة الدم في التصاعد لتصل لأرقام فلكية مبالغ بها جداً، وبعد تدخل وجاهات أخرى تم تخفيض المبلغ إلى 22 مليون، وتم تحديد تاريخ لتنفيذ حكم القصاص في حال عدم حصوله على المبلغ المتفق عليه، ليتحول العفو لوجه الله إلى تهديد لفك رهينة من القصاص، والأغرب من ذلك أن أحد القتلة تم تزويجه قبل أن يواجه مصيره المحتوم لينجب طفلة استخدمها لمناشدة أهل الدم واستدرارعطفهم بالعفوعن والدها الذي ارتكب جريمة قتل قبل أن تولد ! والشيء المخيف حقاً عدد القتلة الذين تم افتداؤهم بالملايين وأطلق سراحهم بكل سهولة، أمام العدد الآخر الذي يقبع في السجون بقضايا صغيرة وجنح لا تذكر ولا تقارن بجريمة القتل ومع ذلك لا يخفف عليهم ولا يخرجون! سيناريو العفو سيتكرر مراراً وتكراراً مقابل الديّة التي يتمسك أهل الدم فيها بالقصاص في حالة عدم الدفع، وسيتكرر مشهد مناشدة أهل القاتل وذويه بمساعدة واستعطاف أهل الخير لتجميع المال الذي أصبح يقام لها مهرجانات لجمع التبرعات يُنشر فيها صورة القاتل مذيلة بأرقام حسابات بنكية ومصارف داخل وخارج المملكة لاستقبال التبرعات التي باتت تنافس مضاربات الأسهم والبورصة، وسيزيد الاستهتار بالقتل ما دام هناك فزعات قبيلة وراء كل قاتل، وسيزداد مبلغ الدية إذا لم يضع القضاء حداً لتلك الكارثة الاجتماعية التي تفشت في مجتمع نظام القضاء فيه مبني على أسس الشريعة، التي حدد فيها القرآن حكم القتل بالتفصيل مع شرح لمعنى العفو لوجه الله وليس من أجل المال، وقد أوصى الله ولي المقتول أن يتبع عفوه بالمعروف فلا يثقل عليه بالبدل ولا يحرجه بالطلب، وأوصى القاتل بأن يؤدي الديّة بإحسان ،ولا يماطل ولا يبخس فيها، و ذلك تخفيفٌ من ربكم ورحمة فهو امتنان من الله على عباده، وما يحدث الآن من فوضى فيه تحريف لكلام المولى عز وجل، ومن يدعي أنه يعفو لوجه الله ينبغي عليه أن يستحيي من الله تعالى قبل أن يبالغ بطلب ثروة يغتني من ورائها !