الوطن الجامع ليس طائفة أومذهباً أو قبيلة أوعرقاً أو إقليماً… بل وحدة، ولأنه وحدة فهو بالضرورة متعدد، فلا وحدة -أي لا تآلف وتشارك- بين الشيء وبين نفسه بل بينه وبين غيره. مَذْهَبَة الوطن أو عَنْصَرته بأي معنى ديني أومذهبي أوعرقي أوإقليمي… إلخ تحايل على سلطة مستبدة. بين الاستبداد وبين الطائفية والعنصرية ومشتقاتهما علاقة اقتضاء وترادف، فالمستبد لا يكون مستبداً فقط بفرض الإذعان له على الناس بالقوة، بل بخلق حاجة وطنية إليه في ذاته بحسبانه دوماً صمام أمان من الحرب الأهلية. وقد سمعنا صراخ سيف القذافي غداة اندلاع الثورة على أبيه وتحذيره من أن ليبيا ليست مثل مصر ولا تونس لأننا قبائل وأقاليم والدم سيسيل إلى الرُّكب إذا سقط القذافي! وفي الحقيقة لم تكن مأساة ليبيا في تعدد القبائل والأقاليم بل في الاستبداد الذي صنع به القذافي لنفسه سلطة مطلقة اقتضت دوماً عزلة الشعب الليبي عن الزمن والعالم وعزلته عن نفسه حتى بدا وكأنه تحت سن الرشد والعقل وعلى وشك أن تهب قبائله لتتناحر لولا حضور أبيها القائد! والأمر نفسه تماماً هو ما نجده في سوريا الثائرة، فمنذ بداية الثورة ومستشارة الرئيس السوري بثينة شعبان تصف المظاهرات بأنها «مشروع فتنة طائفية»! والفتنة الطائفية -إذا فكرنا- يصنعها من يستبد بالسلطة ومن يحتكرها في حزب وفي أشخاص من هذا الحزب لا من يثور ضد الاستبداد. وبهذا لا يغدو تعدد الطوائف أو المذاهب ونحوهما مشكلة وطنية إلا بالاستبداد الذي يلغي التعددية، ويمنح مكوِّناً اجتماعياً امتيازا على غيره من المكونات حتى لو بدا هذا المكون أدلوجية غير دينية كما هو حال حزب البعث.مشكلة الثورة السورية -الآن- في الذين يتصورون أنها ضد طائفة هي طائفة الرئيس الأسد، وفي الذين يعملون على إشاعة هذا الفهم. وهو تصور بارز لدى بعض العامة ويتغذى على مواقف بعض المشايخ والكتاب ولا سيما في دعاء القنوت في هذا الشهر الفضيل لدى بعض الأئمة. هكذا لا يخالف هذا التصور -فقط- حقيقة الثورة التي هتفت الأصوات فيها كما رأينا على شاشات التليفزيون منذ يومها الأول: «واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد» أو «سنية-علوية بدنا وحدة وطنية» بل يصدِّق -أيضاً- دعاوى النظام السوري، وهي نتيجة -إن تمت- مجهضة للثورة بكل يقين، وستدخل سوريا كما توعّد النظام في حرب أهلية مدمرة، وتنتهي -لا قدّر الله- إلى التقسيم الذي يَسُر أعداءها. لهذا كان البيان الذي أصدره في لبنان مطلع هذا الأسبوع العالمان الشيعيان البارزان محمد حسن الأمين وهاني فحص، بشأن تأييدهما للثورة السورية، دلالة على تصورهما الواعي تجاه حقيقة الثورة ومسارها الصحيح بقدر دلالته الدينية والأخلاقية التي تليق بهما. إنه بيان يقطع على من يُمَذْهِب الثورة ويحتكرها باسم طائفة، لأنها ثورة الشعب السوري كله لا طائفة بعينها. وأعتقد أن هذا البيان في حاجة إلى بيانات مرادفة من علماء ومؤسسات سنية تستشعر دلالته وتترامى إلى أهدافه.