منذ ما يزيد على العشر سنوات وأنا أتولى مهام المدير الفني للفريق الياباني NPO KOMA الذي يجول في أرجاء العالم وهدفه العمل على إشاعة نظرية حوار الثقافات بدلاً من مقولة صراع الحضارات، وذلك عن طريق إقامة اللقاءات والندوات الثقافية والمهرجانات الموسيقية والشعرية ومعارض الفنون التشكيلية. ولقد زار هذا الفريق للآن معظم دول أوروبا وآسيا إلى جانب بعض الدول العربية “لبنان، سوريا، الأردن”.، منذ سنتين حطّ رحالنا في شبه جزيرة البلقان فأقمنا في كل من “بلغاريا ورومانيا” سلسلة أمسيات، ثم انتقلنا إلى مدن وحواضر سلافية عدة حيث كان لنا فيها أكثر من ندوة ومهرجان، وكان ختام نشاطنا في “مقدونيا”. وكانت تقام كل الندوات والأمسيات والمهرجانات بالتنسيق المسبق مع وزارات الثقافة ومع البلديات. وحَدَثَ خلال لقاء موسّع مع رئيس وأعضاء المجلس البلدي في “مقدونيا”، بعد أن عبّروا عن شكرهم وابتهاجهم بالحفل الجماهيري الموسيقي – الشعري الذي أحييناه دار حوار مباشر بين رئيس المجلس البلدي وبيني وباللغة السلافية التي أُتقنها. وقمت بطرح مسألة تاريخية تعود إلى ما قبل بدء التاريخ الميلادي بقليل. وعلى مسمع الجميع، توجّهت مخاطباً رئيس البلدية المقدوني قائلاً: “السيد الرئيس إننا الآن على أرض مسقط رأس القائد العسكري اليوناني الكبير الإسكندر المقدوني، الذي هزم الإمبراطورية الفارسية ودمَّر الممالك، واجتاح بجيوشه كل الشرق بما فيها ممالك ساحل البحر الأبيض المتوسط وعلى رأسها مملكة “صور” الفينيقية التي حاصرها مدة سبعة أشهر ثم فتحها وقتل من شعبها سبعين ألفاً وصَلَب ثلاثين ألفاً واستولى على أموالها ومقتنياتها وأخضعها لجبروت سلطانه. السيّد الرئيس إنني لبناني من مدينة “صور” الحالية، وجذوري تمتد في المدينة إلى ذلك الزمن الغابر، لذلك فإنني أطالب السلطات المقدونية بالنيابة عن أهل المدينة بالتعويض ولا أقول بالثأر نتيجة لما وقع على قومي من قتل ودمار واجتياح كَسَرَ مدينتي وأغرقها بدم أبنائها المسفوك!”. هنا عَقَدَتْ الدهشة ألسنة الجميع وعلى رأسهم رئيس البلدية، وساد الصمت لثوان عدة، ثم نَطَقَ بعدها قائلاً: ولكن ما هي علاقتنا نحن اليوم بعد مرور أكثر من ألفي عام بما حَدَثْ؟ ولماذا تريدون أن تحمّلونا وزر ما قام به الفاتح المقدوني بعد أن زالت منذ ذلك الحين إمبراطوريات ودول وشعوب؟ ومن قال لكم أننا ورثة تلك الإمبراطورية؟ ثم من قال وأثبت إنكم من سلالة الشعب الفينيقي السالف؟ وهل من حق بعض الشعوب اليوم أن تطلب تعويضات من الحكومة الإيطالية جراء احتلالات وظلم الإمبراطورية الرومانية لها منذ آلاف الأعوام؟ عند هذا الحدّ ارتسمت على شفتي ابتسامة كبيرة ثم انفجرنا جميعاً بالضحك واستوعبوا الدعابة لأضيف بأننا دعاة المصالحة مع الماضي ودعاة تقارب وبأننا نسعى لحوار الثقافات وبناء علاقات إنسانية جادة. ثم قلت لرئيس البلدية: ولكن يبقى الإسكندر المقدوني بالنسبة لكم بطلاً قومياً، أما بالنسبة لنا فهو – رحمه الله – سفّاح كبير! وهكذا فإن المنتصرين في الحروب هم دائماً مجرمون في أعين المنهزمين! ففي الحرب تنهزم الحقيقة لصالح القوة، وتتوارى العدالة.