في مثل هذه الايام قبل مئة عام، كانت سكوبيه (أو اسكوب كما كانت تعرف في الصحافة العربية) تعيش ذروتها العثمانية باعتبارها مركزاً لولاية كوسوفو، التي كانت تجمع الألبان والسلاف والأتراك واليهود والغجر. في مركز المدينة الذي يخترقه نهر فردار، كانت تتعالى المنشآت العثمانية الضخمة مثل القلعة التي تطل على المدينة من على التل المشرف وجامع بورمالي والخان الرصاصي. ومع الحركة الألبانية المسلحة التي قامت في صيف 1912 للمطالبة بحكم ذاتي، تمكنت قوات الحركة في 12 تموز 1912 من دخول سكوبيه، وهو ما فرض على الحكومة العثمانية القبول بمعظم مطالب الألبان. وكان يمكن، كما يقول المؤرخ النمسوي اوليفر شميت في كتابه «الألبان: تاريخ بين الشرق والغرب» الذي صدر اخيراً، أن تكون سكوبيه وليس تيرانا عاصمة للدولة الألبانية الجديدة، ولكن التطورات الإقليمية ومصالح الدول الكبرى فرضت نفسها مع اندلاع الحرب البلقانية في خريف 1912 ثم اقتسام مقدونيا بين صربيا واليونان وبلغاريا. مع ضمها لمقدونيا الشمالية (أو الفردارية)، كانت بلغراد تعتبر انها قد «حررت» أو استعادت «صربيا الجنوبية»، ولذلك عملت بكل وسعها على «تصريب» السكان والمكان حتى يبدو بالفعل جزءاً من صربيا. وقد انعكس هذا على مركز سكوبيه، الذي أخذ يتمدد نحو الجنوب ويكتسب طابعاً صربياً من خلال التخلص من بعض المنشآت العثمانية وإنشاء المباني الجديدة على النمط الموجود في بلغراد. وفي هذا السياق دمرت السلطات الصربية في 1926 «جامع بورمالي» الذي يعود الى القرن الخامس عشر لتبني محله «نادي الضباط» ولتجعل سكوبيه الجنوبية بطابع أوروبي صربي يختلف تماماً عن سكوبيه الشمالية التي بقيت بطابعها العثماني الشرقي. ومع وصول الحزب الشيوعي اليوغوسلافي الى الحكم في 1945 وإرساء دولة فدرالية جديدة، صار لدينا لاول مرة منذ ألفي عام كيان جديدة باسم مقدونيا (جمهورية مقدونيا) يجمع غالبية سلافية (حوالى 65 في المئة) تعتبر نفسها متميزة عن البلغار والصرب وتسعى لبلورة شخصيتها القومية، وأقلية ألبانية كبيرة (حوالى 30 في المئة) متمركزة في الغرب المجاور لكوسوفو. ومع أن أسماء الشوارع تغيرت، حيث حلت الاسماء السلافية المقدونية محل الصربية، إلا أن سكوبيه (وبخاصة سكوبيه الجنوبية) أخذت الآن تكتسب كغيرها من عواصم جمهوريات يوغوسلافيا، الطابع الاشتراكي في العمارة، الذي يبدو في المجمعات السكنية المتراصة والمباني الرسمية التي تستوحي نموذجاً معيناً. ولكن تطور سكوبيه الجديد ارتبط بالزلزال المدمر الذي تعرضت له المدينة في 1963 ولا تزال آثاره تبدو الى الآن، حيث تم الاحتفاظ بمبنى محطة القطارات القريب من المركز، الذي تؤشر ساعته الخارجية الكبيرة إلى اللحظة التي حدث فيها الزلزال، لأن الساعة قد توقفت عن العمل آنذاك وتحول المبنى الى متحف تذكاري. وهكذا يمكن القول إنه مع المساعدات الكثيرة التي انهالت من العالم، نشأت في سكوبيه الجنوبية مدينة جديدة، وأصبح المركز الآن يعبر أكثر عن الفصل بين سكوبيه الجنوبية وسكوبيه الشمالية التي توقفت فيها الساعة عند خريف 1912. ومع ذلك يمكن القول ان انهيار يوغوسلافيا في 1991 وإعلان استقلال «جمهورية مقدونيا» في ايلول 1991، سيفسحان المجال لتطور جديد تبدو فيه سكوبيه بشكل مختلف بعد أن وصلت فيه الاحزاب القومية الى الحكم، التي أرادت التخلص من «التركة الشيوعية». ومع هذا التطور الجديد لدينا ما يوحي أن سكوبيه تطمح الآن الى أن يكون مركزها يعبر بالفعل عن أمجاد مقدونيا التاريخية وذلك ضمن مشروع كبير أطلق عليه «مركز سكوبيه 2014»، حيث من المتوقع أن تكون الصورة الجديدة لسكوبيه قد اكتملت حتى ذلك الحين. في المركز الآن ينطلق عالياً تمثال الإسكندر الكبير، الذي أطلق اسمه أيضاً على مطار سكوبيه، ليصبح هو القلب الجديد لسكوبيه الذي يطل مِن علٍ على تماثيل الشخصيات التاريخية الضخمة المجاورة له، ومنها تمثال الامبراطور الروماني جستنيان، الذي كان من أصول مقدونية. وفي الشارع الممتد من تمثال الإسكندر المقدوني الى مبنى محطة القطارات أو المتحف، لدينا عشرات التماثيل المعاصرة التي تمثل وجوه المجتمع المحلي بمكوناته المختلفة، فلدينا في أول الشارع «ماسح الاحذية» الذي يعبر عن فئة الغجر التي كانت تسيطر على هذه المهنة التي لم يعد لها وجود حي في المدينة، كما أنه على بُعد أمتار منه يقع متحف الأم تيريزا التي فازت بجائزة نوبل للسلام في 1978. وربما لا يعرف كثر أن الام تيريزا من مواليد سكوبيه، ولكن البيت الذي ولدت فيه (كان يقع على بعد أمتار من الموقع الحالي لتمثال الإسكندر الكبير) هُدم وبني خصيصاً لها هذا البيت المشابه للقديم بعد أن أصبحت «جمهورية مقدونيا» تعتز أيضاً ب «ابنتها» كما تسميها، مع الخلاف حول أصلها. وحول هذه التماثيل العملاقة في المركز، التي توحي للمرء أنه في معرض فني مفتوح، تبنى على شكل سوار حولها سلسلة من المباني العامة (متاحف ووزارات... الخ) تستوحى العمارة المقدونية القديمة، والتي تربط لاول مرة ضفتي نهر فردار بوحدة معمارية جديدة تجعل المرء يشعر انه في «جمهورية مقدونيا» فعلاً وليس في مكان آخر. صحيح أن الزوار الأجانب ينبهرون بهذا المظهر الجديد لسكوبيه الذي سيصل الى ذروته في 2014، ولكن الحكومة تواجه معارضة في الداخل لأجل التكاليف الكبيرة للمشروع في الوقت الذي تضغط فيه الأزمة الاقتصادية على المجتمع، ومعارضة في الخارج تمثلها اليونان التي تنتقد سكوبيه باعتبارها تستولى بذلك على التراث المقدوني الذي تعتبره جزءاً من تاريخها القومي. ولكن الحكومة المقدونية لا تأبه لذلك، بل أنها أعدت الآن قاعدة لتمثال كبير للملك فيليب الثاني على الضفة الاخرى من نهر فردار، لكي لا تجعل الاسكندر الكبير وحده في المركز أو منقطعاً عن أسرته. هذه الاعمال الفنية الضخمة في مركز سكوبيه لا تكلف الملايين فقط (تقدّر المعارضة كلفة مشروع «سكوبيه 2014» ب 400 مليون يورو) بل لها تكلفتها السياسية في تفاقم العلاقة مع اليونان المجاورة التي لا تريد لاحد أن يشاركها تراث مقدونيا، بما في ذلك الدولة المجاورة التي تحمل منذ 1945 اسم «جمهورية مقدونيا» وتشغل بالفعل مساحة مقدونيا الشمالية.