كان طارق، وقد شاهدته واستمعت إليه، منذ يومين، وهو يتلو قداسة وحي الرب بصوت جمع أحاسيسي وذاكرتي وأعادها صوب هناك، إذ صوت الأب الشيخ الساكن حضن الجبل، والعروش، وأزهار السكب. طارق بسط كفيّ الماضي لنقرأ سوياً هدأة أبيه عبدالباسط. كان هو طارق ابن الجليل -عبدالباسط عبدالصمد-. وكان وادي -لتين- ذاك جرس اليقظة لأبيه، ندعس في عجل ترابه فيصحو ويغتسل بطل شجر السدر، ويثير علينا لعنة غباره. كان عبدالباسط عبدالصمد كان يجلبها حين يصدح في كل صباح في مذياع المدرسة بقصار السور. يرتل وأستمع قليلاً، يرتل فألهو قليلاً، يرتل فأكمل واجب التاريخ اللعين. ثم يصمت طويلاً، فأدرك أن الطابور قد بدأ. تعدو الأيام، والصفاء، والطمأنينة لاتزال حديث القلب، وتمضي وكثير من الروعات والألق لا نشعر بها إلا حين تمضي. حينما كان عبدالباسط يبسط لنا الآيات، ويحملنا والصباح على أجنحتها، ويطوف بنا بين الأحزاب، والنبأ، والحياة نتسامى، ونأتلف، ونتشرنق في فيّ واحد، ونصلي من أجل البقاء. يا لسيادة المد، والإخفاء، والإدغام في صوته الآتي من الجنة. يا لسيادة حنجرته المطهرة بالرحمات. يا للرضا الماطر، صلوات تباركنا، وتنبت بيننا شيئاً كالأمنيات الصالحات التي لا تغضب. صوته المتعبد قربان يشفع لأرواحنا بأن تلج إلى أنهر الطاعات وإن أصابها رين الخطايا. أوتار صوته تعزز حضور الضوء ليلفنا بالنزاهة، ويغشينا بالنعاس الآمن. لا نرجو مع صوته اللهو المباح، ونرجو أن يسكن فينا كل شيء إلا برهة تأمل تزفنا لشيء أكبر من حجم عقولنا. لكننا نمتلئ بعبقه الذي يتماهى والرضا في خلايانا اللدنة. عبرتُ مساءً أوتار عبدالباسط لأجدني في – المدرسة – التي تمطت أوتاره المباركة فيها نشاطاً، وحرية، وقفزت في ردهاتها وصهلت بالذاريات، والعاديات، والضحى. كل أصواته اجتمعت المساء، وكل قراءته أحاطتني فأصابتني بهلع الأجداث. نصبتُ على رمس آياته السر والعلانية بعض تحاياي؛ وكفنت وردة وجعلتها لجوار صوته البار، والمدرسة العقوق. الآن، أستمع إليك، وأمتثلك، وكأنك في الظلام هناك البعيد تجلس وتلقي يديك لإذنيك وتصدح فتسمع من في القبور إلى جوارك، وتصدح أخرى فتسقط ظلالنا وخطايانا وشقوتنا الغالبة، وتصهل بالذكر، فأرنو إلى الغيب أسائل عن صوت تعثر بالمنكرات، واستوقفته الشياطين، فأجلب عليها بخيل مسومة من سورة الفتح والزلزلة.لابد أن تفرغ آذان قلوبنا برهات ونصبُ فيها طلاوة سلسبيل صوتك لتطفو بالمغفرة. إن نفعل فإننا نمسك بمجاديف النجاة في بحر الحياة اللجي، وإن يمسنا صوتك فقد اجتذبنا الخلاص من اللغوب الذي نرجو. وإن ترق محاجرنا بندى صوتك فالخشوع الذي يعصمنا ويسابق بنا لطوبى. يا أنت الماكث اللحظة في فضل إرثك المقدس ستطيب روضتك؛ وتحفك ملائكة الرحمة، وسيذكرك الرب في ملأ أفضل من ملأ كنت فيهم.