كتبتُ ذات يوم عن قضية لا يطرقها كتابنا الكرام، بل ولا يحبونها نظرا إلى سيطرة المفهوم العالمي عليهم عما يطلق عليه (ثقافة الشارع)، وعن سوء فقههم ل(المجتمع المدني) الذي بنوه على ما جاءهم جاهزا من مجتمعات أخرى تقوم بنيتها الاجتماعية على مجرد تجمّعات بشرية تنتمي إلى مكان بحكم الوجود لا بحكم الانتماء، بينما علينا أن ندرك أن مجتمعنا المدني مبنيّ على ثقافة القبيلة عبر عصورنا العربية في جزيرة العرب، والفرق بين مطلق المشيَخَة قبل نشأة الدولة الحديثة وبينها الآن: أن الشيخ اليوم يتلقّى التعليمات التنظيمية من المرجعية العليا للدولة، ويقوم بتنفيذها وتسييرها كمؤسّسة مدنيّة تنفيذيّة ميدانية مباشرة لاغنى عنها، أما سابقا فعدم التئام البلد تحتَ راية واحدة وتنظيمات إدارية كان مدعاةً إلى التعصّب الممقوت، واختلاف التوجّهات، علما بأن التنظيمات المدنية للدولة لا تتعارضُ بحالٍ مع قيم المجتمع الذي يتألف من هذه القبائل. لا أحد ممنْ عنيتهم من الكتاب والمثقفين يستطيع إنكار بنيتنا، الذين يدعون منهم إلى تفكيك القبيلة يمكنهم فقط الحديث عن النظم المدنية لا عن الجوهر الذي ينبني على أسس الانتماء القبلي والمكاني معا، بينما النّظم تمنح من يفتقر إلى الانتماء القبلي كامل الحقوق بواسطة العُمَد الذين يتمتعون بنظمٍ وقوانين ماليّة خاصة.. كتبتُ -آنذاك- موضوعا بعنوان: (حضارة القبيلة) المتضمِّن ذهولي عندما اكتشفتُ أن وجهاء القبائل العظيمة تصدر بتكليفهم موافقاتُ وزارة الداخلية بقيادة قبائلهم التي تُعد أُسَّ العروبة وعماد ثقافتنا الوطنية التي لا يَصْدُقُ عليها المصطلحُ الشهير بين مثقفي الوطن العربي (ثقافة الشارع) بمقدار ما تنتمي إيجابيا إلى ثقافة القبيلة التي نعتز بها ونطورها وحدةً لا تَفْرِقة، ووطنا لا قبيلة، وشِيَماً هي الباقية لنا أمام عولمة القِيَم، هذا الانتماء القبلي هو مهد الشيم العربية التي تبني الترابط الحقيقي القيمي أكثر مما تخضع للأنانية أو الفئوية الممقوتة، اكتشفْتُ أن هذه الريادة النابعة من صُلب القبيلة المتوّجة بقرار الداخلية لا يقابلها حقٌّ مادّيّ معلوم لشيخ مسؤول كريم يتحمل ما يتحمله أمام الأنظمة، كما يتحمل الأكثر أمام القيم النبيلة.. لا شيء له على الرغم من أن هويتي الوطنية لا تثبت للوزارة دون إثبات شيخي إياها، وإذا كنت من حارةٍ فعُمدتُها يعرفني ولا يعرف أصلي ومنشئي وولادتي ولا يملك إعطائي هذا! ولأنني أشعر أن كتابتي السابقة ينطبقُ عليها مثلٌ كان يطلقه آباؤنا علينا عندما يشرحون لنا أمرا فلا نهتزُّ له ولا نتفاعل معه فيقولون: (خَطِّطْ في ماَ واقْبِصْ في حَيْد).. قررتُ أن أكتب هذه الرسالة إلى المواطن الأمير: (محمد بن نايف) عله يسألُ بإمكاناته التي لا يملكها هنا مواطن آخر ويتابع ويتخذ قرارا تجاه هؤلاء العظماء المسؤولين الصامتين المتعفّفين، يحقق مزيدا مما يستحقه مشائخنا لمكانتهم التي تعرفها لهم الوزارة كما يعرفها المجتمع، ويدركها الأمير شخصياًّ، كما يعلمها من يفقهُ أسرار بنية المجتمع السعودي وتركيبته المبنية على أسسٍ أنثروبيولوجية جعلته وستجعله -إن شاء الله- مجتمع الشيم المسؤولة.. ولشعوري بعجز مقالتي السابقة في هذا الأمر قررتُ أن تكون هذه رسالة إليه أكثر منها مقالة. إنّ شيخ القبيلة مسؤول كل المسؤولية أمام الأحوال المدنية عن هوية كل مواطن ينتمي إلى قبيلته، وهو مسؤول أمام الجهات الأمنية عن كل ما يتعلق أمنيا بهم، وهو رائد حقيقي لقيم القبيلة النابعة من قيمنا العربية التي نطالب أجيالنا وشبابنا بالتمسك بها وتعجز مدارسنا وكل وسائل تعليمنا عن غرسها، كما أنه سلطةٌ جوهرية قيَمِيّة كاملة، ومن شيمهم التي دعتني إلى هذه الرسالة: قيامهم بواجباتهم تجاه قبائلهم وتجاه الوطن دون إلحاح في المطالبة بحقوقهم المادية.. ولي الحقّ في القول: إنّ أحدهم موجز لمدير عام الأحوال المدنية ومدير شرطة المنطقة وإمارتها في آنٍ واحد، إذْ لا غنى لأحد هؤلاء عن الشيخ في أية قضية داخل قبيلته وأفرادها، ومع هذا فإنّ الأنظمة المتعلقة بحقوقهم تتحدّثُ عن كيفية اختيار الشيخ والموافقة عليه من جهة الاختصاص دون أن يأتي فيها ذكر لمستحقاتهم التي يجبُ أن تكون على قدر مسؤولياتهم وقيمتهم الاجتماعية.. فلماذا لا يكون لهذه الفئة نظام صريح يتساوى فيه المطالبون بحقوقهم منهم والمتعففون عن هذا -دون أن يعلم المجتمع أو الجهة الرسمية شيئا عن هذا التعفّف؟ ولتقدير هؤلاء من رؤوس المجتمع لنا أن نتذكّرَ ما يتمتّعون به من كرم أصيل يمثّلُ قيم هذه الأرض، فبمجرد زيارة من مسؤول أو نازلٍ في المكان يتحمّلون مسؤوليات الإكرام والاستقبال والضيافة التي لا يمنعهم عنها ضيقُ ذاتِ يد بعضهم من الناحية المادّيّة.