لم تشأ «بلقيس» أنْ تتمرد على نسائيتها «الناقصة» إذ أدركت أنها لا تعدو أن تكون في حسابات الخِلْقةِ والخَلْقِ «أنثى» ليس إلا! ولمن كان في مثل حالها وبخاصةٍ أنّها «امرأةٌ» واحدةٌ وبإزاء ملأٍ من «الرجال» هل يمكنها أن تتلبّس بأي فعلٍ ينمُّ عن وضعيةِ (تمرّدٍ) وفسوقٍ عن كينونتِها (الناقصةِ)؟! لا.. لا يمكنها ذلك، الأمر الذي آثرت معه «بلقيس» آنذاك أن تُهمّشَ عقلها – هذا إن كان ثمة عقل!- لصالحِ عقول «الملأ» من قومها. وإذن.. فلم يكن ثمة بدٌّ من أن تنصاعَ راغمةً إلى ما انتهى إليه «عقل الرجال» من رأيٍّ وهو -بالضرورة- ما سيكون فيه هلاك بلقيس وقومها وخسرانهم مملكة «سبأ»، وثمة خسرانٌ أخرويّ ذلك أنها لم تكن وقتذاك قد أتت «سليمان» وقومها مسلمة موحدة! إلى هذا ستكون مآلات القصة لو أنّ «بلقيس» لم تحفل بعقلها ويكون إليها الرأي.. بينما الحقيقة في الأمر هي ما كان من خبر «القرآن الكريم» في شأن ملكة سبأ.. بحسبانه يحكي قصتها محتفياً بها، وذلك أن جعل منها «أنموذجاً» فاعلاً من شأنه أن ينتقض «غزل أوهامنا»، ذلك الذي استقرّ بباطن «عقلنا الذكوري الجمعي» وظنناه بادي الرأي هو الدين وليس الأمر كذلك!! لا جرم أن «القرآن الكريم» أراد أن يضع من «المرأة» حكاية أخرى غير التي كنّا في جاهليتنا (القديمة والمحدثة) قد ألفناها عليه، ثمّ كان لهذا الإلف أثره السالب إذ تقادم وتوكد بمؤكداتٍ غير شرعيةٍ أورثت فينا فهوماً سقيمةً ليس أشنعها أسئلة منهزمة من مثل: – هل أن الدين منحاز للرجل على حساب المرأة؟! – ما الذي يجعل الفقه يتضخم في ذكوريًته ليضعف تالياً بصورة ضامرة في جناب «المرأة»؟ – إلى أي مدى تظل نصوص الوحيين حفيّةً بالرجل وحسب؟ دعونا إذن نصحب «بلقيس» من خلال القرآن وحسب: – يكاد أن يتفق جملةٌ كبيرة ٌ من المشتغلين في القرآن وتأويله على أنّ هذه المرأة «إنما أريد بها بلقيس ابنة شراحيل وفي ترتيبها مع ملوك سبأ وتعيين اسمها واسم أبيها اضطراب للمؤرخين، والموثوق به أنها كانت معاصرة لسليمان في أوائل القرن السابع عشر قبل الهجرة، وكانت امرأة عاقلة. ويقال: هي التي بنت سدّ مأرب مدينة عظيمة باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث مراحل». – ما إن آب الهدهد من مهماته عقب غيابه حتى استقبلَ نبي الله تعالى سليمانَ بقوله: • أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ. • إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. • وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ. • أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ. • اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. وبناء فعل «أوتيت» للمجهول إبانة لأن الأسباب شتى فيما أوتيته فمنه ما كان إرثاً من الملوك السالفين، ومنه ما كان كسباً من كسبها واقتنائها، ومنه ما وهبها الله من «عقل» و»حكمة» وفق حكاية المحققين من المفسرين. – لكن سليمان عليه السلام قال: «سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِين. اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ». وعندما رأت ملكة سبأ هذا الكتاب جمعت قومها «الرجال» ثم لم تلبث أن: • قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ. • إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. • أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. كان يمكنها باعتبارها «الملكة» وليس من أحد في بلاطها من هو أرفع منها شأواً، إذ كان يمكنها بهذا الاعتبار أن تتخذ ما شاءت من أي قرارٍ أو تدبير/ وتصرف دون أن تحفل بهم أو بما يأتون به من آراء، فضلاً عن أن يهمّ أحدهم بالاعتراض عليها. وهل أنّ من أحد فينا يمكنه أن يقول للرجل «الملك» رأياً ينازعه فيه؟! إذا ما شاء الملوك -من فئة الرجال- أن يتخذوا فينا رأياً أو يقرروا مصيراً! أيّا يكن الأمر فلم تكن هي المستبدة عطفاً على ما كانت تتوافر عليه من «عقل» إذ أدركت بداهة أن أمراً بمثل هذه الجسامة خطورة قد يكون من شأنه «تحدياً» وتعنتاً أن يجشمها وعورة «حرب» تأتي على أخضر ملكها ويابسه! إلى ذلك هداها «عقلها وحكمتها» إلى أن تستشير أصحاب الرأي في قومها ابتغاء أن تفهم حقيقة «سليمان» هل هو ملك بغية أن تتعامل معه وفق «مسالك الملوك» أم أنه «نبيّ الله تعالى» وللأنبياء هديٌ في التعامل غير ما للملوك بالضرورة! فلم يكن منها إلا أن: «قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُون». – ولأنها المرأة والأكثر فيهم وفرة عقلٍ وحكمة جاء ردهم «رجالياً» بمنطق عضلات الأيدي، إذ أدلوا برأيهم وفق ذلك المنطق: «قالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِين». … يتبع