ولدتُ في عام 1974 أي بعد انفصام الوحدة بين مصر وسوريا بثلاثة عشر عاماً، ومع هذا ظلت سوريا بالنسبة لي -وربما بالنسبة لأغلب المصريين- امتداداً للمفهوم الواسع للوطن، فما يحدث في سوريا ليس بعيداً عن بيتي ولا مقهاي ولا حجرة الفصل في مدرستي، حتى أننا شعرنا بقدر الإهانة التي خلّفها صعود بشار إلى مقعد الرئاسة كما لو أنه غافلنا نحن وصعد لمقعد رئاستنا نحن. الذين زاروا مصر من السوريين يعرفون معنى أن تكون بين المصريين وتُعرّف نفسك باعتبارك سورياً. الذين زاروا سوريا أيضاً من المصريين يخبرون اللحظة نفسها والمعنى نفسه. أغلب جيلي والجيلين اللذين ولدا بعدي تسرب إليهم الشحن العاطفي نفسه لمعنى الوحدة، ربما للمشتركات الحضارية بين مصر وسوريا، بين مصر ومنطقة الشام كلها، الشام الذي تقع سوريا في القلب منه، ربما لهذه المشتركات نتابع الثورة في سوريا كما لو كانت امتداداً للثورة المصرية، كما لو أن إسقاط النظام في سوريا تأكيد لإسقاط النظام في مصر. وربما لهذه المشتركات أيضاً انفجرت الثورة في سوريا مبدعة للغاية، حتى في اختياراتها لعناوين أيام ثورتها، جمعة بشائر النصر، جمعة صمتكم يقتلنا، جمعة لن نركع إلا لله، جمعة أحفاد خالد. هناك مقولة منسوبة ربما للشاعر المصري زكي مبارك تقول: يولد الشعر في العراق ويعيش في سوريا ويموت في مصر. فالعراق يبتكر الجديد في المسيرة الشعرية، وفي سوريا يجد من يرعاه ويوقفه على قدميه، أما مصر فتكتب شهادة وفاته بعد أن تقطر حكمته وبلاغته، لهذا فإن السوريين «يُشعِرُون» وهم يختارون أسماء جمعاتهم. لا يعرف السوري أن يثور إلا شعراً فمزاجه شاعري حتى وهو يهتف في المظاهرة، حتى وهو يسقط شهيداً. في مصر كانت اختياراتنا لها ذائقة نثرية للغاية، ربما تتويجاً لانفجار الرواية في السنوات الماضية. نثق في مصر، كما يثق السوريون، أن النصر في طريقه لسوريا ربما أسرع مما نتخيل، حتى منذ اندلعت الثورة كنا -وكانوا- واثقين أنها مسألة وقت، وأن سقوط الأسد حتمي. ومع هذا تتجدد مخاوف المصريين هذه الأيام، فقد فقدت الثورة شاعريتها بسبب الدماء التي سالت وتسيل كل لحظة. نظام الأسد أفقد الثورة شاعريتها الأولى، وأفقدها براءتها أيضاً، لم يعد الحديث عن ثورة في سوريا بقدر ما بات الحديث عن اقتتال في سوريا، في مصر ظلت الثورة «سلمية» ورغم الدماء التي سالت (هي الأقل تقريباً في مسلسل الربيع العربي والحمد لله) فقد ظل الهتاف مستمراً «سلمية سلمية» فيما لم تعد الثورة في سوريا سلمية ولا شاعرية ولا بريئة. ماذا تفعل القصيدة أمام المدرعة والدبابة والطائرة الحربية؟ لقد فرض نظام الأسد إيقاعه على الثورة، فرض غباءه ووحشيته. لدى المصريين مخاوف أيضاً بخصوص سوريا. المصريون يخافون من ركوب أبناء البنا على الثورة السورية، ثمة شائعات هنا وهناك أنهم وراء تشكيل جيش سوريا الحر، أيضاً يروج النظام السوري لشائعات تقول إن الإخوان يجدون مدداً من دول لها مصالح في سوريا لتمويل الجيش الحر. يخاف المصريون أن تكتمل دائرة النظم البناوية بعد سقوط نظام الأسد. أما أنا فلديّ أسبابي لتبديد تلك المخاوف. أولاً أن الثورة السورية دفعت ثمن الحرية غالياً جداً لهذا فإنها لن تُسرق مهما كانت القوى الطامعة في سرقتها، ثانياً أن السوريين حتى اليوم يدفعون الدماء غالية معاً، ورصاصات الجيش العلوي لا تفرق بين مسلم سني أو مسيحي أو كردي، ثالثاً أن الثورة بالفعل أصبح لها مجلس يديرها منذ شهورها الأولى، صحيح أن هناك كثيراً من المشكلات العالقة بين أعضاء ذلك المجلس ولكنها سوف تحل إذا ما سقط نظام الأسد عن قريب. الخوف كل الخوف أن تظل الثورة معلقة وأن تنجح الدول الداعمة لنظام بشار في إطالة أمد الثورة للتغطية على الحرب النفسية التي يقودها النظام ضد الثوار، وهي حرب تستهدف النيل من معنويات الثوار أولاً وبث الطائفية فيما بينهم ثانياً، فمنذ أيام خرجت بعض المظاهرات تجوب الشوارع هاتفة «العلويون على إيران والمسيحيون على لبنان» كما لو أنها ثورة تستهدف العلويين والمسيحيين، ولا أشك أن النظام السوري وراء هذه المظاهرات رغبة منه في صرف نظر الثوار عن قضيتهم الأساسية. لديّ كل الثقة -كواحد من المصريين المحبين لسوريا- في أن الثورة سوف تنتصر، ولديّ كل الثقة في أني سوف أزور سوريا عن قريب، سوريا التي لم أزرها من قبل، وثقتي في أن الله قد ادخر لي هذه الزيارة حتى تكون زيارتي لسوريا الحرة.