سوق العمل.. ذلك المفهوم الطوبائي الذي حل علينا من زحل ليهدي خطط التهميش البشري العربية، أو عذراً (خطط التنمية البشرية) في الوطن العربي، يهديها القاصمة والرخصة الجازمة لتمارس مناوراتها التهميشية. وإلى الآن لا أدري متى وأين وكيف ظهر هذا المفهوم الذي يعدّ واحداً من المنجزات الفكرية التي تصلح أن تكون سلاح دمار شامل للقدرات البشرية والإمكانات والمواهب الفعالة في المجتمع العربي الهاوي! في جامعاتنا «مواءمة التخصصات مع احتياجات سوق العمل»! في مدارسنا «مواءمة المناهج مع متطلبات سوق العمل»! في منازلنا «اختر تخصصك المناسب وشواغر سوق العمل»! وقس على ذلك! من وَهَم تلك المفردة القاتلة التي تسري في شتى السياقات الاجتماعية فإذا كان سوق العمل ولا يقتصر على كونه مجرد مساحة تقوم على مبدأ العرض والطلب، بل يجب أن تمارس فيه أيضاً عمليات البيع والشراء كالسوق التقليدي المعتاد! فقد يصبح أحدهم هاموراً! أو قد يستغل أحد العامة التنزيلات الرمضانية ويثقل كاهله بشراء وظيفة المهندس، أو قد يكسر أحد الطبقة الكادحة ظهره بقرض بنكي وهو يحلم بشراء وظيفة الدكتور بمواصفاتها المميزة وسعرها المغري الذي لا يوجد إلا في سوق العمل! يا رباه.. هذه المأساة ألهبت عقولنا وقلوبنا، فلا يُعقل ذلك التأطير الذي بات يطال القدرات اليانعة والعقول المفكرة المبدعة والمجتهدين من الأفراد والذين بذلوا من الأوقات والجهد في سبيل كسب المعرفة والتحصن بسلاح الخبرة وهم يحملون على عاتق آمالهم أن يجدوا لهم بؤرة من ومض الضوء بمكانة اجتماعية مهنية تؤهلهم لخدمة أوطانهم، وتكون لهم أرض الحراث التي يبذرون فيها تلك الطاقات الخلاقة والأفكار المبدعة، ليجابههم سوق العمل بزيف الوهم الغادر ويكون البعبع الذي يعترض طريقهم ويكسر أغصان إبداعهم. على سبيل المثال (والحقوق محفوظة فقط لواقع المجتمع) يبذل طالب كلية العلوم الإنسانية خمس سنوات من عمره يقيضها بين غبار الكتب وأرفف المكتبات وأروقة الدراسة وصنوف الأبحاث والدراسات، كذلك خريجو الاجتماع (الباحثون الاجتماعيون) لننظر في ضروب الغرائب في المجتمع العربي، إنه بعد كل تلك السنوات المثقلة، يلطمه سوق العمل بالجلوس ترنحاً بين جدران بيته ليعيش على الأحلام الأفلاطونية والفلسفات السقراطية والمناهج التي تزدحم بين جنبات عقله، والسبب (متطلبات سوق العمل)! أوليس سوق العمل هذا هو الذي جعل من هذا الباحث الاجتماعي في مكانة قد تفوق المهندس والطبيب في مجتمعات أخرى كالمجتمع الأمريكي أو الفرنسي، حيث لا تكاد تخلو مؤسسة من الباحثين والاختصاصيين الاجتماعيين الذين يقومون على أقسام العلاقات المهنية وشؤون الموظفين والعلاقات الإنسانية وأقسام البحث الميداني والبحث المهني الاجتماعي؟! أوليس ذلك السوق هو الذي هيأ البيئة الخصبة لاستثمار تلك الطاقات والمواهب في سبيل خدمة المستويات المهنية المختلفة؟! وقِس على ذلك في شتى صنوف التخصصات المهدرة التي تدفع بها الجامعات والكليات والمعاهد وهي تعجّ بعقول مفكرة قادرة على صنع التغيير والتطوير ومواكبة طرق وأساليب النماء التي يشهدها العالم على اختلاف أقطاره. قد يقول قائل إن تلك المجتمعات قد خطت خطوات نحتاج إلى عشرات السنين للوصول إليها والتواؤم مع الوضع الاجتماعي والاقتصادي والإداري الذي وصلت إليه، وهنا أقول: أولسنا نحن الذين أولينا الفن وضروبه كل ما يحتاجه من اهتمام؟! لن أطيل ولكن أكتفي فأقول: كفى ثم كفى تهميشاً لتلك القدرات المختلفة، ولنُعِد النظر في خططنا الهيكلية التي تجعل سوق العمل محصوراً في مجالات معينة، فالبشر كفاءات وقدرات لا يمكن تصنيفها فقط بما يهوى سوق العمل بل تحتاج إلى تخطيط يعطيها وزنها داخل النظام الاجتماعي.