البحرين – محمد النبهان رسم: معتصم هارون حين طرح السؤال عن ماهية السينما، رد المخرج الإيراني المثير عباس كيارستمي: «هي الصورة التي لا تكون محصورة ضمن حدود ما تراه. إن لها طبقات عديدة مختلفة، وتلك الطبقات أحيانا تغمر الصور التي تراها، فلا تفكر إلا في هذه الطبقات. تلك هي السينما»؛ ولو غيرنا السؤال إلى ماهية الشعر، ربما لما احتجنا إلى تغيير شيء في نص الجواب، أو لغيرنا مفردة الصورة إلى اللغة، في الشعر كما في الأدب والفن. ولهذا يقتبس الكاتب البحريني أمين صالح هذه الجملة في مدخل كتابه الأخير «عباس كيارستمي: سينما مطرزة بالبراءة»، ويضع عنوان المدخل، هكذا: سينما ذات امتلاء شعري. غلاف الكتاب يقول أمين صالح في هذا المدخل البانورامي المهم عن كيارستمي، قبل أن ينتقل لأفلامه وكتابات عنه وحوارات معه، يقول «لدى كيارستمي الإحساس الحاد بالتراكيب البصرية – الصوتية، ولديه أسلوبه الخاص الذي يتميز به، والذي نجده حاضرا في أفلامه، حيث تتكرر العناصر في أفلامه، كما هو الحال عند أغلب كبار المخرجين في السينما العالمية (بيرجمان، أنتونيوني، تاركوفسكي، فلليني، بريسون، أنجيلوبولوس.. وآخرين) الذين يعبرون عن عوالمهم الخاصة بالعناصر ذاتها واللغة التي تميزهم. إنه يحقق أفلاما تتحدى توقعات المتفرج الذي اعتاد على تقاليد معينة في صنع الأفلام، وفي الوقت نفسه يقدم أفكارا فلسفية عن الوضع الإنساني على نحو بسيط ظاهريا ودونما تعقيد. إنه يوظف البساطة المضللة لسبر قضايا مركّبة وشائكة، مؤكدا على أهمية المادة أكثر من التقنية». وهذا بالذات شرط الإبداع مقابل كثير من الأعمال التي تمارس تقنياتها الكثيرة لإنتاج نص بعيدا عن روح الناس. كيارستمي الذي يقترب من ناسه الذين يعيشون داخله، ومن اللحظة القلقة في الفن، المنتجة، يضع أمين صالح في كتابه عنها عنوانا ساحرا مستوحَى من جان كلود كارييه، كاتب السيناريو الشهير، الذي قال عنه «سينما كيارستمي مطرّزة بالبراءة. إنها مباشرة وبسيطة، وهي لا ترفع أي شعار، فلا مجال فيها للاستطرادات، ولا لرفّات الجفن. الفيلم يعطي بأنه يخلق نفسه تلقائيا دون أي أسلوب مقرر سلفا». وكما فعل صالح مع كتابه السابق عن المخرج اليوناني ثيو أنجيلوبولوس، لا يعتمد هذا الكتاب الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ضمن كتاب مجلة البحرين الثقافية، (وبحسب مقدمة صالح) «على التحليل النقدي لأعمال المخرج الإيراني الشهير عباس كيارستمي – وهي مهمة جوهرية، أساسية، وضرورية، لكنني لا أحسن القيام بها – بل يركّز بؤرته «هذا الكتاب» على ترجمة الحوارات التي أجريت مع هذا المخرج، المستمدة والمجمعة من مصادر مختلفة ومتعددة، وهي مواد خضعت للإعداد والترتيب والتنظيم، بحيث تقدم نظرة بانورامية شاملة (أو هكذا تطمح وتحاول) لعالم المخرج الإيراني، من وجهة نظره الخاصة. وهي تشتمل على أنشطته الفنية، وآرائه، ورؤاه، وأفكاره، وتأثراته، وأساليبه، وخلفيته الثقافية،و تعدّد طاقاته الإبداعية وتنوّع اهتماماته وأنشطته الفنية والأدبية، وشعريته الطاغية، والمحيط المحلي الذي يتحرك فيه ويسبره بعمق بعين نافذة، فضلاً عن الأبعاد الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تشكّل ركائز أساسية في تجربته الإبداعية». يقول كيارستمي: «أظن أن التقنية من أجل التقنية هي كذبة كبرى، إذ إنها لا تطابق المشاعر الحقيقية والرغبات الحقيقية». ويقول عنه الممثل الفرنسي ميشيل بيكولي: «كيارستمي ينجز الأفلام بفضل مخترعي السينما، لكن هؤلاء المخترعين أنفسهم سيكونون معجبين باختراعهم عندما يشاهدون حكاية يرويها كيارستمي». أو ما قالته عنه جايتي جينسن: «هو باستمرار يُظهر لنا كيف أن المادة البسيطة تكشف طبقات لا نهائية من العمق والامتلاء الشعري، وكيف أن التغيّرات الدقيقة تؤثر في تمامية العمل». ولهذا تكتسب الحوارات المترجمة مع كيارستمي في الكتاب أهمية كبرى، كما أن المقالات التي كتبها نقاد بارزون تسلّط الضوء على جوانب مختلفة ومفيدة من تجربة كيارستمي السينمائية، «الذي يعد واحداً من أهم وأبرز المخرجين في السينما العالمية المعاصرة، ويقر عديد من النقاد بنبوغ كيارستمي وعظمته كسينمائي متميز، استطاع بفضل إبداعاته – مع إبداعات سينمائيين إيرانيين لا يقلون أهمية – أن يضع الفيلم الإيراني على خارطة السينما العالمية، وأن يجعل من حضوره حدثا ثقافيا مهما». كما يقول صالح، وكما أخرج هذا الكتاب بما يليق وهذه التجربة المميزة التي تضيف للمكتبة العربية كتابا مهما كمرجع في السينما وفي تجربة كيارستمي. فضلا عن الحوارات والكتابات النقدية يترجم أمين صالح نصين أو شهادتين لعباس كيارستمي حول تجربته الذاتية، وتحت عنوان «هكذا تحدث كيارستمي» لا تملك إلا أن تعيد قراءة النص، وتقف عند ثقافة كيارستمي ورؤاه الفكرية والفنية والإنسانية.. فهذا كتاب ليس حصرا على السينمائيين فقط، لكنه كتاب في الفكر والفن والإنسانية.. كتابٌ لن تضيع إن تجولت في غابته، معتمرا براءة أولى مطرزة بالسينما.