مع أنه قدّم سبعة كتب، حتى الآن، عن السينما إلى المكتبة العربية، مازال البحريني أمين صالح على تواضعه مستنكفاً عن تقديم نفسه إلى القراء، وفي كتابه الأخير «عباس كيارستمي.. سينما مطرزة بالبراءة» يؤكدها مجدداً: «مثلما فعلت مع كتابي السابق عن المخرج اليوناني ثيو أنجيلوبولوس، هذا الكتاب أيضاً لا يعتمد على التحليل النقدي لأعمال المخرج الإيراني الشهير عباس كيارستمي - وهي مهمة جوهرية، أساسية، وضرورية، لكنني لا أحسن القيام بها - بل يركّز بؤرته، هذا الكتاب، على ترجمة الحوارات التي أجريت مع هذا المخرج، المستمدة والمجمعة من مصادر مختلفة ومتعددة، وهي مواد خضعت للإعداد والترتيب والتنظيم، بحيث تقدم نظرة بانورامية شاملة (أو هكذا تطمح وتحاول) لعالم المخرج الإيراني الفذ، من وجهة نظره الخاصة». ومثل بقية كتب صالح، يجد القارئ في هذا الكتاب الجديد متعة خاصة لبساطة أسلوبه وغنى معلوماته ووضوح ما فيه، عكس الكثير من كتب السينما المترجمة إلى العربية أو المعدة لقارئها الذي لا يجد فيها غالباً إلا طلاسم عصية على الفهم ولغة أبعد شيء عنها الوضوح. أهمية هذا الكتاب لا تكمن فقط في ما يقدمه من صورة بانورامية لكيارستمي وعالمه، بل لكونه يعرفنا بسينما قريبة منا، سينما تنتمي إلى منطقتنا وبالتالي فنحن معنيون بفهمها والتعرف عليها كما قال هو نفسه عنها «لدينا هذا الوسط (السينما) الذي من خلاله نطرح، دوماً وإلى الأبد، تلك الأسئلة الكبيرة: من نحن؟ ما الذي نفعله؟ ما هو الواقع؟». ولهذا السبب يكتسب الجزء الخاص بتاريخ السينما الإيرانية أهمية في الكتاب لا تقل عن أهمية المعلومات الشخصية والتي يقدم منها لنا صالح الكثير، بخاصة تلك المتعلقة بكيارستمي غير السينمائي أي التشكيلي، الشاعر والمصور الفوتوغرافي، والذي قال عنها مرة «صورة واحدة هي أم السينما. هناك بدأت السينما، مع تلك الصورة الواحدة» وأضاف «إن تأمل سماء غائمة وجذع ضخم لشجرة تحت ضوء سحري هو أمر صعب عندما يكون المرء وحده. عدم القدرة على الإحساس بالمتعة لمرأى منظر طبيعي جميل ورائع مع شخص آخر هو ضرب من التعذيب. لهذا السبب بدأت في التقاط الصور الفوتوغرافية. أردت - بطريقة أو أخرى - أن أجعل تلك اللحظات من الولع والألم تصبح أزلية». أما الفن التشكيلي فورث حبه من والده الذي كان رساماً ومصمم ديكورات المباني والمنازل، مع أنه اعترف، أكثر من مرّة، بأنه في طفولته استخدم الرسم كأداة لمقاومة وحدته. وهو خاض تجربة المسرح لأول مرة عام 2002 في إيطاليا التي وفرت له فرص تقديم مسرحية «تعزية» العمل الذي ركّز على واقعة كربلاء ومقتل الإمام الحسين، وقد أتخذت من الشعائر الدينية الشيعية، المتصلة بالعزاء، إطاراً لها، ومن خلالها قدم كيارستمي رؤيته السياسية في ربط الماضي بقضايا الحاضر. لقد تصادف عرض المسرحية يومها مع الانتفاضة الطالبية التي شهدتها المدن الإيرانية. وبهذا الشأن عبّر كيارستمي بوضوح عن موقفه مما يحدث: «احتجاجات الطلبة هي رد فعل طبيعي، بعد ست سنوات من تولي خاتمي رئاسة الدولة. من الواضح أنه لم يف بوعوده التي أطلقها عند انتخابه». شيء من السياسة لقد اهتم كثر دائماً بموقف كيارستمي السياسي واختلفوا عليه. وفي الكتاب محاولة لتلمس هذا الجانب وإن بحذر إلى حد ما وعبر عرض لحالة إيران السياسية «مع اندلاع الثورة والإطاحة بالشاه وإعلان الجمهورية الإسلامية في شباط (فبراير) 1979، تم حظر عرض الأفلام السينمائية، فتوقف الإنتاج السينمائي كلياً، وهاجر الكثير من السينمائيين، في مختلف المجالات، أما من بقي من المخرجين، وهم قلة: داريوش مهرجوي، أمير نادري، عباس كيارستمي.. فقد لاذوا بالصمت والترقّب. وكيارستمي يعتبر بقاءه في إيران آنذاك من أهم القرارات التي اتخذها في مسيرته، إذ إن قاعدته الأساسية، الدائمة، توجد في إيران، وأن هويته الوطنية هي التي قوّت وعزّزت قدرته كصانع أفلام. ولم يشارك كيارستمي في حياته كلها سوى بنشاطين سياسيين كما يعترف: «المرة الأولى عندما كنت في الخامسة عشرة (بعد الانقلاب الذي تم برعاية المخابرات المركزية الأميركية في 1953 ضد محمد مصدق وإعادة الشاه إلى الحكم)، والمرة الأخرى مع اندلاع الثورة الإسلامية. لكنني لن أشارك ثانيةً في أي نشاط سياسي. أنا واثق من أن الثورة لها دوافع شرعية، لكنها عاطفية ولا عقلانية دوماً. هذا ما يفضي إلى فقدانها شرعيتها. بعدئذ تأتي قوة الشر لتسيطر وتتحكم، وتقود الثورة نحو اتجاه آخر». سينما كيارستمي بعيدة عن السياسية، منطلقة من نظرة مختلفة يلخصها «السياسي يعني أن تشايع وتحازب، فإن أفلامي ليست سياسية، وسوف لن أدعو أحداً كي يصوّت لمصلحة شخص أو معارض. أنا لا أحض الناس على القيام برد فعل ما، بل أحاول أن أصل إلى حقيقة الحياة اليومية. طالما نحن نحاول ملامسة هذه الحقيقة، فإن الفيلم يكون سياسياً جوهرياً وعمقياً». وللتعرف على أهمية أفلامه وكشف جوهرها العميق يعرضها صالح كلها، ووفق تسلسل زمن إنتاجها، ويضيف إليها بعض أراء النقاد السينمائيين ومن بينهم الأميركي جودفري شيشاير الذي وجد «بأن جميع شخصيات عباس كيارستمي هي في حالة حركة وانتقال من مكان إلى آخر، من بحث إلى آخر. وفي أثناء حركتها هي لا تكف عن طرح الأسئلة في شأن كل شيء.. هذه الأسئلة لا تهدف إلى الحصول على إجابات معينة بل، بالأحرى، تظل معلّقة مثل سلسلة لا نهائية من الأصداء». أما الحوارات واللقاءات الصحافية فأخذت أكبر حيز من الكتاب. ومن خلال أجوبة كيارستمي عليها تتشكل عند المتلقي صورة شبه كاملة عن أسلوب عمله وطريقة تفكيره، ولعل في جوابه على سؤال مريام روسين من مجلة «Cineaste» الأميركية حول معنى عنوان فيلمه «لقطة قريبة» Close - Up ما يصلح أن يكون مثالاً: «إن له علاقة بحقيقة أن في حياتي الاعتيادية، خارج عملية صنع الفيلم، لا أحب أن يكون الناس بعيدين، كما في اللقطة العامة. عندما أرى هؤلاء الناس، الأشخاص الذين أعرفهم، في وضع قريب جداً، فإن مشاعري تجاههم تتغيّر. أظن عندما يكون الناس في لقطة قريبة فإن المرء يراهم على نحو مختلف عما لو كانوا في لقطة عامة، ويمكن أن يفهمهم بشكل أفضل. إذن اللقطة القريبة تعني الاقتراب قدر الإمكان من شخص ما. لو نظرنا إلى قضية سابزيان من مسافة بعيدة، على سبيل المثال، لربما قلنا إن هذا الشخص محتال، دجال، وغير ذلك. لكن حين نقترب منه، حين نلتقط له صورة قريبة، نفهم بأن ذلك الانطباع لم يكن صحيحاً. لهذا السبب سميت الفيلم «لقطة قريبة». ولا ينسى صالح الاستشهاد ببعض آراء كبار السينمائيين بموهبة كيارستمي فيوردها في مؤلفه ومن بينهم عملاق السينما اليابانية أكيرا كوروساوا، الذي اعتبره واحداً من كبار المخرجين المعاصرين فقال عنه: «عندما رحل ساتياجيت راي شعرت بكآبة وإحباط تام. لكن بعد مشاهدتي لأفلام كيارستمي، اقتنعت بأن الله قد اختار الشخص المناسب ليحل محل ساتياجيت راي».