في دورة الألعاب الأولمبية في « لندن» 2012 التي سوف تنطلق بعد يومين (27 يوليو – 14 أغسطس )، سيشاهد العالم أول وأكبر منتزه جديد في أوروبا منذ 150 سنة. وهو « المنتزه الأولمبي» الذي تم فيه تحويل الأراضي الملوثة إلى طبيعتها الأصلية من نهر ومنطقة أراضيها مشبعة بالمياه لتعود إليها الحياة البرية. وسوف يسجل التاريخ أن دورة لندن 2012 هي أول دورة أولمبية صيفية تحسب حجم التلوث البيئي بالكامل. كما تأمل أن تحقق رقما قياسيا عالميا جديدا بعدد الأشخاص الذين يعادل التلوث البيئي الناتج عن رحلتهم لحضور هذا الحدث الرياضي ما تم اللجوء إليه لأجل الحفاظ على البيئة في المنتزه الأولمبي. أهم منظر سياسي ربط بين الألعاب الرياضية والسياسة العالمية وقضايا البيئة والاقتصاد في عصر العولمة، هو الخبير الفرنسي « بسكال بونيفاس « مدير المعهد الفرنسي للأبحاث في العلاقات الاستراتيجية، الذي أصدر في عام 1998 كتابا مهما جديدا في بابه ومضمونه هو «الأرض مستديرة مثل الكرة «، أعقبه بكتاب آخر عام 2010 عنوانه « كرة القدم والعولمة «. في هذا الكتاب الجديد يرسم بونيفاس المعالم الكاملة لخريطة العلاقات الدولية في ضوء رياضة « كرة القدم « أو الساحرة المستديرة، ويكشف عبر صفحاته كيف أن هذه اللعبة تفوقت على كل الامبراطوريات في التاريخ من حيث الهيمنة والسيطرة (باستخدام القوة الناعمة)، بل وكيف انتشرت في أركان العالم الأربعة أكثر من شبكة الإنترنت. كرة القدم – برأيه – هي النموذج المثالي للعولمة وملعبها الأساسي، فقد اخترقت الحدود وأذابت الفوارق العرقية واللغوية والدينية وحشدت المجتمعات وراء منتخباتها، ورغم تعدد المرجعيات الثقافية في العالم، فإن كرة القدم وحدت الأذواق. خصوصية المنافسة في كرة القدم، كما يقول بونيفاس، أنها مفتوحة على كل الاحتمالات، كل المتنافسين سواسية عند نقطة الانطلاق، الأمر الذي يجعل من كرة القدم نشاطا «ديموقراطيا « حقيقيا. عبر سنوات طويلة ومراجع كثيرة، اجتهدت شخصيا في تحديد تاريخ تقريبي لبداية العولمة، ولكنني فشلت فشلا ذريعا إلي أن عثرت على هذه المعلومة عنده، يقول: «في 26 أكتوبر عام 1863، اجتمع 17 ممثلا للمدارس في بريطانيا لتوحيد قواعد لعبة كرة القدم».. هذا الاجتماع التأسيسي ربما يؤرخ لبداية العولمة، ولميلاد « الفيفا « أو (الاتحاد الدولي لكرة القدم) . بونيفاس يدهشك بمقارباته ومقارناته، التي تحرج المنظمات الدولية أمام أنفسها وأمام العالم (ثلاثة مليارات مشاهد عبر العالم)، يقول قرارات «الفيفا»: أكثر احتراما وإلزاما من قرارات هيئة الأممالمتحدة، ناهيك عن أنها نجحت فيما فشلت فيه الأممالمتحدة، فهي تجمع في هياكلها إسرائيل وفلسطين، الصين وتايوان. «كرة القدم تتميز بأنها انفلتت من السيطرة والهيمنة الأمريكية، وسبقت بكثير مجال الجيوسياسية الذي يتجه اليوم إلى التعددية القطبية، بينما لم تفلت الأممالمتحدة من سيطرة الولاياتالمتحدة». «عدد الأعضاء في الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) 208 دول بينما عدد أعضاء منظمة الأممالمتحدة 192 دولة»! خلاصة كتاب «بونيفاس»، في تصوري، هو ما سبق وطالب به «جورج سوروس» عام 2002 في كتابه (حول العولمة)، الذي رأى أن سبب ظلم وإجحاف العولمة الرأسمالية يعود إلى أن «تطور مؤسساتنا الدولية لم يتناسب من حيث الإيقاع والسرعة مع تطور الأسواق المصرفية العالمية. يضاف إلى ذلك أن التدابير السياسية (خاصة إصلاح منظمة الأممالمتحدة) التي اتخذناها كانت بطيئة ومتخلفة عن السرعة التي تمت بها العولمة الاقتصادية. بمعنى آخر فإن العولمة السياسية لم تتحقق حتى الآن لكي تتساوق مع العولمة الاقتصادية التي قطعت شوطًا كبيرًا في التحقق». الملياردير «سوروس»، بالمناسبة، هو أحد أكبر المستفيدين من العولمة، فضلاً عن كونه الشخصية النموذجية للعولمة، وهو ثمرة هواياته المتعددة: يهودي من أصل مجري يحمل الجنسية الأمريكية ورجل مالي ومحسن منهمك في تمويل بلدان الشرق . الطريف في دورة الألعاب الأولمبية في لندن 2012 أنها تتزامن مع حلول شهر رمضان المبارك، وحسب موقع وزارة الخارجية البريطانية : « فقد جاهدنا طوال ثلاث سنوات لوضع برنامج من الدعم يفي بحساسية اللاعبين والمشجعين المسلمين (وأتباع الديانات الأخرى). ولقد تم استشارة المجلس الإسلامي البريطاني ومنظمات إسلامية أخرى لتحديد سبل ضمان تلبية احتياجات المسلمين بشكل عام، والاحتياجات الخاصة بشهر رمضان بشكل خاص. وقد تضمنت المشورة تصميم اللباس الرياضي، وسياسة توفير الغذاء، والأمن، وتوفير الدعم الديني وأماكن الصلاة». وهكذا نجحت الرياضة فيما فشلت فيه السياسة، كما يقول «بسكال بونيفاس « .. وكل سنة وقراء «الشرق» أكثر إشراقا.