الموسيقى غذاء الروح وملهمة ولكن أتذكر من تاريخي الشخصي أن الأمر استولى علي وحرمتها على نفسي حتى أنني كنت إذا سافرت في تاكسي أجرة دخلت في نقاش مع السائق إلى درجة التهديد بالنزول من السيارة. كنت أفعل ذلك وأنا أشعر في أعماقي أنها جميلة ورائعة وطال الأمر حتى توضحت الأمور لي وتبين لي موقعها من الروح والتاريخ والتدين. والتعصب نار تأكل العقل ما لم تطفأ بماء الرشد. وكثير يسألني عن الموسيقى هل هي حرام أم حلال؟ وهو يذكرني بقصة السؤال عن اللعاب في الصيام؟ هل إذا بلع الرجل لعابه يفطر؟ أو هو مثل سؤال هل يجوز للدم أن يصل للدماغ؟ والمسألة إذا دارت حول الفتوى دخلت في نفق من النقاش لا نهاية له، وما يحكم على الموضوع هو الواقع والنتائج. وابن حزم منذ أيام دول الطوائف ناقش المسألة مع كل الطوائف، وقال لا يوجد نص واضح يمنع سماع الموسيقى، والمسألة شائكة مع المتعصبين، وسهلة مع الذين يفتحون آذانهم للحوار. ومن بنى لنفسه خنادق فكرية أعلن الحرب، ومن راجع نفسه وكف النفس عن الهوى فقد اهتدى، ولكن بيننا وبين مراجعة النفس مسافة كبيرة لا يخترقها الضوء بكل سرعته لأنها عالم خارج النور والضوء. قال لي الأخ رشيد إن هناك من يدلل بالآية من قوله تعالى من سورة لقمان أن الموسيقى حرام وهي (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (لقمان:6)، ويعقب الرجل وهو ملتاع حائر أنه من الواضح أن الآية هنا تتحدث عن الكلام وليس اللحن (لهو الحديث)، والفرق واضح بين اللحن والحديث، ولكن لو فتحت لهم طريقا في السماء فسلكوه، ولو بنيت لهم سلما فصعدوه، ولو قطعت لهم الأرض وكلمهم الموتى وبعث لهم كل شيء قبلا لقالوا إن هذا لسحر مبين. والقرآن يقول عن الإنسان أنه أكثر شيء جدلا. وما يحكم على الأشياء في النهاية هي النتائج، والبشر يجربون أشياء كثيرة، ثم تستقر الصورة على أشياء بعينها، فقد جرب الجنس البشري مثلا كل أنواع العلاقات الجنسية، ولكن ما ثبت نوعان من العلاقة: أحادية رجل لامرأة أو رجل لأكثر من امرأة. وفي الفيزياء بقي ماكس بلانك مذؤوما مدحورا مع أنه دشن ميكانيكا الكم، حتى مات جيل معاصريه وناقديه فاعترفوا بفضله. وهو الذي كان يراهن عليه رسول الرحمة أنه سيخرج من أصلاب القرشيين من يعبد الله وحده.