تكتب ريم الصالح: “للفراق والألم أفضال على الشعر والأغاني”، يرد علي الضوّي فيكتب: “الشعر لا يأتي إلا مع السعادة القصوى”، ورأيي أنهما على حق، لا يمكن لكتابة شعرية جيدة أن تأتي من فراغ، لابد من ألم وحرقة وتجارب فراق تمنح الحكمة، وتثقل القلب برائحة (جلاليب) الراحلين، وتثقل العقل بفهم ما وراء الحكايات، ظلالها، وحفيف أشجارها، لا بد من حرقة تكشف معدن الذهب، وتمكّن من تطويعه وصقله، المعاناة لازمة لازمة، لولاها ما كان لبحة الربابة والنايات معنى، والشعر غناء، والغناء آه طويلة، وتأوهات قصيرة، الشاعر حين يكتب يكون جزء منه شيخا كبيرا، وما من أحد يستحق الشفقة مثل شيخ كبير بلا ذكريات، غير أن الجزء الآخر من الشاعر حين يكتب -نصفه أو أكثر من النصف بقليل- شاب في مقتبل العمر، لا يعرف من الدنيا سوى مباهج مقبلة، ويظن في نفسه القدرة على تغيير العالم، شاب بلا أحلام وأمنيات يستحق الاحتقار، والشاعر أكرم من الشفقة والاحتقار، نصف الشاعر على الأقل يظل طائشا، جياشا بمشاعر، تطير به أحلام وأمنيات وتحط به أحلام وأمنيات، وأظنه أثناء الكتابة، ولحظة انغماس الدم بالحبر، واتحاد الجسد بالورقة، يكون في سعادة بالغة، يعيش لحظات فرح راعشة لا مثيل لها، يحيا في “سادرٍ يشبه ولا يشبه الكهربا”!، لا أحسب أن الشاعر لحظة التقاطه لعبارة نابغة، لصورة جديدة، يحسد أحدا على وجه الأرض، إنه شعور غرائبي، حيث يتملكه شعور من وطئ أرضا جديدة لم يسبق لقدم إنسان أن وطئتها منذ آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، أحيانا يزيد هذا الشعور في غيّه وفرحه حين يسكن الشاعر إيمان بأنه لو لم يطأ بقلمه هذه الأرض فإنها ستظل كذلك عذراء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والخلاصة أنه لا بد من حزن ينعزل الشاعر عنه قليلا ثم يمر عليه بفرح لتكون القصيدة، أظن أن قولا لطاغور يطرق الباب مستأذنا يريد دخولا مرحّبا به: الطفل لا يرى وجه أمه قبل أن يخرج منها!