هل رأى أحد منكم يوماً جنازة؟ هل تعرفون رجلاً كان إذا مشى رجّ الأرض، وإن تكلم ملأ الأسماع، وإن غضب روع القلوب، جاءت عليه لحظة فإذا هو جسد بلا روح، وإذا هو لا يدفع عن نفسه ذبابة، ولا يمتنع من جرو كلب؟ هل سمعتم بفتاة كانت فتنة القلب وبهجة النظر، تفيض بالجمال والشباب، وتنثر السحر والفتون، جاءت عليها لحظة فإذا هي قد آلت إلى النتن والبِلى، ورتع الدود في هذا الجسد الذي كان قبلة عباد الجمال. هل قرأتم في كتب التاريخ عن جبار كانت ترتجف من خوفه قلوب الأبطال، ويرتاع من هيبته فحول الرجال، لا يجسر أحد على رفع النظر إليه، أو تأمل بياض عينيه، قوله إن قال شرع، وأمره إن أمر قضاء، صار جسده تراباً تطؤه الأقدام، وصار قبره ملعباً للأطفال. هل مررتم على هذه الأماكن، التي فيها النباتات الصغيرة، تقوم عليها شواهد من الحجر، تلك التي يقال لها المقابر؟! فلماذا لا تصدقون بعد هذا كله أن في الدنيا موتاً؟ لماذا تقرؤون المواعظ، وتسمعون النذر فتظنون أنها لغيركم؟ وترون الجنائز وتمشون فيها فتتحدثون حديث الدنيا، وتفتحون سير الآمال والأماني، لماذا يطغى بسلطانه صاحب السلطان، ويتكبر ويتجبر يحسب أنها تدوم له؟ إنها لا تدوم الدنيا لأحد، ولو دامت لأحد قبله ما وصلت إليه. ولقد وطئ ظهر الأرض من هم أشد بطشا، وأقوى قوة، وأعظم سلطانا، فما هي إلاّ لحظات حتى واراهم الناس بطنها فنسي الناس أسماءهم. رحم الله الشيخ الفاضل علي الطنطاوي صاحب الوجه السمح البشوش واللغة الصافية البسيطة والأسلوب المؤثر المقنع، ويا ليت شبابنا الذين يملؤون المساجد والجوامع ناصحين وواعظين وخاطبين في الناس تعلموا من الراحل الطنطاوي وأمثاله من الذين يعرفون كيف يقولون الكلمات وكيف ينطقون بها ليحصل التأثير المطلوب في سامعيها.. وبالمناسبة لماذا لا يرعوي الجبارون والمتكبرون واللاعبون بمصائر الناس والمغرورون بأنسابهم وجاههم وأموالهم ونفوذهم، عن الاستمرار في طريق الجبروت هذا وهم يرون العبر تحيط بهم من حولهم وتتساقط عليهم من فوقهم وتنتشر أمامهم في طريقهم أنّى ذهبوا وساروا، لكنهم يدوسونها بأقدامهم بمنتهى العمى بدل من أن يتوقفوا ولو لحظة لتأملها والتفكر فيها! ما هذا الإنسان الذي يؤمن بالموت ويدفن أخاه بعد أن يشارك في حمل جنازته ويتقبل عزاءه، لكنه لا يمكن أن يقتنع أنه سيموت وستبلعه الأرض وتهب لحمه وعظمه وقلبه لدودها الذي ينتظر وجبته البشرية كل لحظة وكل ساعة وكل يوم بشوق ووله ولهفة!