الكاتب الإيطالي القدير والقديم ( البرتو موارفيا) عندما تأمل حال مجتمعه بعد الحرب العالمية .. وما أصاب الناس من أهوالها وخرابها وجد أنه حين يفقد إنسان أهدافه لحياته العامة ولحياته الاجتماعية خاصة .. ينشأ مرض اسمه اللامبالاة .. فقد اعتبر الكاتب أن اللامبالاة مرض وعلى المجتمع أن يجد له مصلا للوقاية منه، وتسأل لماذا يشعر الإنسان بالملل وفقد الإحساس بالجمال والفرح والمتعة ؟ هل لأن حياته تدور في دائرة ضيقة ؟ هل ذلك يحدث عندما يريد أن ينجز شيئا في الحياة ولايستطيع ؟ أم عندما يسعى إلى التغيير ويجد حياته كما هي ؟ وقد أجاب الكاتب في روايته ( زمن اللامبالاة ) والتي كتبها في خمسينات القرن العشرين حيث صورلنا هذه المشاعر المدمرة لهذا المعنى اللامبالاة والذي يصيب الإنسان فيجعله يفقد الإحساس بكل شيء .. كنت أقرأ لواشنطن بوست ووجدت أن الزمان يعيد نفسه، وأترككم مع هذه القصة التي تؤكد لكم أن ما عاشه الكاتب (البرتو موارفيا ) لازلنا نعيشه في القرن الواحد والعشرين تقول القصة: إنه في يوم داكن من أيام الشتاء.. كان الضباب في الخارج يملأ الأشجار والعيون والأفواه .. حتى أضواء السيارات تحولت إلى فوانيس صغيرة .. كانت قوة الريح تزداد.. كانت أسلاك الكهرباء تئن في الفراغ الواسع في سماء واشنطن ..أما في القاع حيث (مترو الأنفاق) .. فبدا غارقا في صمته.. كان عازف يقف كنقطة بيضاء في تلك العتمة السفلية تحيط به الحيطان القديمة الباردة .. كان يعزف بجمال لايقاوم .. كان عزفه كنسمة فجر إلا أن الناس كانوا ينتشرون من أبواب المترو مثل رمال رياح الجنوب السريعة ما أن تصل آليات المترو من بعيد.. كان البعض يغرقون في قهقهات وصرخات وضحكات .. كان آخرون يغرقون في صمتهم المعتاد.. كان هناك من لا يسمع سوى نفسه .. البعض كان يبحث عن مكان رأسه داخل معطفه الخشن مثل القطة البردانة.. بعض العمال كانوا يتثاءبون بكسل كبير..لم يكن أحد يهتم بما يقدمه العازف .. ضاعت نغماته وسط الزحام .. كانت تلك النغمات تتطاير مثل الذرة الضائعة في الفضاء .. كان الجميع يمشون أو يلتفون.. يلتفتون إليه لحظة ثم يواصلون سيرهم أو تسلقهم الدرج للوصول إلى الشارع من غير أن يقولوا شيئا وكأن المدينة عن بكرة أبيها فقدت رغبتها في الاهتمام بالجميل.. كان شيء من الدهشة والحيرة يملأ عيني العازف وحزن كبير يتجشأ في داخله كسرطان .. مسح عن وجهه غمامة مقلقة نزلت على عينيه وطوى آلة الكمان في صندوقه الجلدي عثر في الصندوق على 32 دولارا قذف بها بعض المارة في الصندوق أثناء انشغاله بالعزف، كان يردد وهو يلتقط النقود (لابد أن شيئا ما في هذا العالم يسير باعوجاج) ثم كنس نفسه وأنسحب .. كان العازف هو (جوشوا بيل ) أشهر عازف كمان في العالم وكان يعزف إحدى أعقد المقطوعات في العالم والمكتوبة على الكمان تقدر قيمتها ب 3,5 مليون دولار حيث كان قد عزفها قبل يومين في قاعة تمتلئ عن آخرها في أحد مسارح ( بوسطن) حيث وصلت سعر بعض البطاقات إلى ألفي دولار .. لقد تخفى ( جوشوا بيل ) في محطة المترو كجزء من تجربه جتماعية قامت بها صحيفة (الواشنطن بوست) عن الإدارك الجمالي والأولويات عند البشر وكان تعليق الصحيفة.. يا ترى كم من الأشياء الجميلة الأخرى التي نمر بها كل يوم دون وعي!! كان رأيي وأنا أنتهي من قراءة تلك التجربة أن الواقع الأليم يثبت لنا أن أشياء كثيرة انكسرت مع الأيام في داخلنا مثل الزجاج نتيجة ما فعله ( أعداء الجمال والفرح فينا) حيث قتلوا الاهتمام بالأشياء الجميلة والتي تحيط بنا وبالتقسيط وطلقوا الفرح بالثلاث بل وبرعوا في تكثيف القبح وتخريب اللحظات الإنسانية وجعلوا كل اللغات موجعة عندما يتعلق الأمر بالبهجة والفرح.. كل جميل أبيد وبهدوء.. كل جميل فقد معناه.. كانت حياتنا مضيئة كشمس لاتنطفئ وكان كثير من الفرح يملأ أعيننا وكنا نتنفس بارتياح.. الآن كل شيء جميل اختلط بالقبيح بل وبعضه انقرض بالكامل.. كل شيء فينا صار ضيقا.. ساحاتنا.. مطاعمنا.. مولاتنا.. شوارعنا.. قلوبنا. محطاتنا الفضائية.. عيوننا.. كل شيء تصدع بقوة فظيعة.. يرحم والديكم.. لوين رايحين !!. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 134 مسافة ثم الرسالة