“كل تجربة لا تورث حكمتها تكرر نفسها”.. هكذا كتب عبدالله أحمد النعيم.. المفكر السوداني وأستاذ القانون بجامعة أموري بولاية أتلانتا الأمريكية. النعيم كتب عبارته في غير ذات السياق الذي تجري فصوله في السودان اليوم. لكن يبدو أن العبارة صالحة لأن تُقرأ في كل سياق. البشير تهكم على وصف البعض انتفاضة الشباب في بلاده بالربيع العربي قائلا “تسعة أيام من الاحتجاجات على غلاء الأسعار ليست ربيعا عربيا” (ماذا سيقول وقد دخلت الاحتجاجات يومها السادس عشر؟) وأعاد سرد الكتالوج نفسه: أياد خارجية.. قلة مندسة (الصحف الرسمية وصفتهم بالمخربين والشواذ).. وأكد شعبيته بين أبنائه بخروجه بسيارة مكشوفة في الشارع وسط تكبيرات منهم.. ومؤكدا في الوقت نفسه أن الربيع العربي حدث فعلا في السودان مرات عديدة، ولسان حاله يقول إن السودان شهدت إصلاحات سياسية واقتصادية تفوق طموحات السودانيين. البشير الذي يقرأ من الكتالوج نفسه الذي كان مبارك وبن علي والقذافي يحفظونه غيبا لم يرث حكمة التجربة لهذا فإن التجربة ليس أمامها إلا أن تكرر نفسها. الاحتجاج بدأته طالبة في جامعة الخرطوم.. وقفت بلافتة صغيرة أمام المدينة الجامعية احتجاجا على سياسة التقشف التي أقرها البرلمان وتقضي بإلغاء بعض الدعم خاصة على المحروقات. كان يمكن للتجربة أن تقف عند هذا الحد لولا أن أحدا لم يرث حكمتها.. الطالبة تم ضربها من قبل رجال الأمن.. ما استدعى في اليوم التالي خروج زميلاتها احتجاجا على قمعها.. ولأن الأجهزة الأمنية لا ترث حكمتها فإنها ضربت الطالبات أيضا ما استدعى خروج الطلبة من مدينتهم الجامعية بالمئات دفاعا عن زميلاتهم وعن حقهن في الاحتجاج وفي التعبير.. التجربة التي لا يرث حكمتها أي من تلك الأنظمة تكرر نفسها في كل مكان، على الرغم من أن المسألة أبسط من كل هذا الجهد وأبسط من كل هذه الدماء التي تسيل والعنف الذي يتصاعد.. ثمة شعوب لديها أوجاع وثمة من عليهم الإنصات لتلك الأوجاع.. بل وثمة من عليهم تطييب تلك الأوجاع بدلا من ضرب هؤلاء الذين يتوجعون. البشير لم يرث حكمة التجربة التي أطاحت بزين العابدين بن علي وبمبارك والقذافي وما زال يراهن على أن السودان ليست تونس ولا مصر ولا ليبيا. البشير يتجاهل الانتفاضة الطلابية التي وصلت لحد حرق مقر حزبه الحاكم رغم أن الأزمات تلاحقه منذ انفصال شمال السودان عن جنوبها، مشاكل حدودية مع دولة الجنوب.. تمرد في مناطق أخرى أصبحت تقريبا في يد المتمردين.. مشاكل اقتصادية لا حد لها بعد فقدان عائدات النفط.. هل تنقسم السودان الجديدة؟ هل تسير السودان عكس تيار الزمن؟ هل كفت البشير شعارات الدولة الدينية كل هذه الأزمات؟.. شعار الإسلام هو الحل الذي صار شعار الإخوان المسلمين في كل مكان هل كفاهم لمنع كل هذه الأزمات؟ بدأت الأزمات في السودان بعد الاستقلال بسبب الحرب السياسية حول الشريعة الإسلامية، دساتير تعرضت للإلغاء والانقلاب عليها في كل مرة تحت ضغط جماعة الإخوان التي أصرت على دستور إسلامي يطبق الشريعة من وجهة نظرها، تعطلت بسبب هذه الحرب السياسية كل مظاهر الحياة السياسية، تعطلت المؤسسات التشريعية والدستورية، اعتقل المعارضون وذبحوا، طورد الحزب الشيوعي الذي كان من أكبر الأحزاب السودانية، تجاهلت النخب.. نخب الإسلام السياسي ونخب المعارضة القضايا الأساسية للشعب السوداني الذي تقيحت جراحه وتزايدت أوجاعه يوما بعد يوم.. تجاهلت أن الشعب السوداني شعب فقير وأمي وغير مدرب.. تجاهلت مشاكله وأوجاعه مثلما يتجاهلها البشير اليوم. كان ابن الخطاب يقول لو أن دابة تعثرت في العراق لسئل عمر عنها. تمهيد الطرق كان عند بن الخطاب الذي يفهم الإسلام أكثر من البشير أهم من الشعارات. الحكومات في كل مكان على المحك. يبدو أن القرن الجديد جاء بالاحتجاج، حتى الدول الغنية في الشمال.. الولاياتالمتحدة.. بريطانيا.. وغيرها.. لم تسلم من الاحتجاجات.. الشعوب تئن.. تتوجع.. لديها مطالب.. وعلى الحكومات تلبية تلك المطالب.. وتطييب تلك الأوجاع.. وإلا أجبرتها الشعوب على الرحيل. البشير يصف الاحتجاجات بلحس الكوع.. وهي تعبير دارج في اللهجة السودانية يعبر عن إتيان المستحيل.. من يمكنه أن يلحس كوعه؟. المحتجون أسموا جمعة الغضب الأخيرة بجمعة لحس الكوع في تحد واضح للبشير.. المحتجون يقولون للبشير نحن قادرون على لحس الكوع.. فعلها التونسيون والمصريون والليبيون ولحسوا كوعهم. التجربة لا تورث حكمتها ولذا فإنها تكرر نفسها مرات ومرات، إلا إذا أدرك البشير اللحظة الفارقة.. وأدرك في الوقت المناسب أن من واجبه تطييب أوجاع شعبه.. حينها فقط يكون قد ورث حكمة التجربة، وإلا.. يكون قمع الاحتجاج.. لحس كوع.