هناك هاجس كبير يؤرق الغرب المسيحي، هو بروز الهويات الجماعية في أوروبا، وهي أنواع متعددة، منها ما تسعى في مطالباتها المستمرة بفسح المجال لها، لممارسة عاداتها وطقوسها وثقافتها، أي كل ما يتصل بموروثها الديني واللغوي والتربوي، كما هي حالة الجماعات المهاجرة كالمسلمين من العرب والآسيويين، ومنها ما تطالب أيضاً بالاستقلال السياسي والاقتصادي، كما هي حالة أقاليم وجزر متعددة في أوروبا ذاتها، كما هي حال الكاتالونيين وجزر الكناري في إسبانيا أو إقليم بافاريا، الذي يتمتع بسلطة شبه مطلقة في ألمانيا. يحدث ذلك كله تحت شعار الحرية، التي كفلتها الدساتير الأوروبية. بالطبع هناك أنواع أخرى متمايزة من الهويات الإثنية واللغوية، التي تسكن في أوروبا. لكن سنكتفي هنا بهذين النوعين. إذن هذا الهاجس أو «الخوف من البرابرة» -وهو عنوان كتاب للمفكر تودووف- جاء من كون الثقافة الأوروبية لم تكتمل قصة نضالها لأجل الحرية، إلا بعد أن حصلت على صك اعتراف بالحرية الفردية، بل إن هذه الحرية المتصلة بالفرد هي من أقدس المقدسات، التي يعتز بها الإنسان الغربي، ويعدها أحد أهم المكاسب التي صنعتها الحضارة الغربية، ومن هذه الزاوية تحديداً نتفهم تلك الهواجس والمخاوف، التي تطال معظم الرأي العام الغربي، بخصوص بروز ظاهرة الهويات الجماعية، باعتبارها ظاهرة -حسب رأيهم- سيسبب انتشارها انحسار الحريات الفردية، وبالتالي لا تصبح للفرد قيمة معتبرة كما أرادها مفكرو الغرب منذ عصر الأنوار. وأكثر ما ينطبق هذا على النوع الأول من تلك الهويات. أما ما يخص النوع الثاني، فالتخوف نابع من الاستقلال السياسي والاقتصادي، سيؤدي إلى مخاطر كبيرة على الأسس القومية للدولة، وأيضاً إلى أضرار جسيمة على الاستقرار والسلام العالميين، كما شاهدنا في حالة البوسنة والهرسك على سبيل المثال. لكن الفصل بين أسباب المخاوف التي تتصل بهذين النوعين من الهويات، لا ينبغي أن يحجب عنا التداخل المعقد بينهما، إذا ما نظرنا إلى الوقائع والأحداث عن قرب، وتصفحنا كذلك كل هوية على حدة من خلال سياقها التاريخي والاجتماعي واللغوي. الكثير من الباحثين يرى أن العولمة كنظام يهيمن على الأنظمة والقوانين التي تحكم شعوب العالم، وعلى علاقاته الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية، هي التي تحدث حالة من الفوضى بين الاثنين. لكن لنتساءل الآن: هل صحيح أن فكرة التعارض القائمة بين الحرية الفردية والهويات الجماعية فكرة صحيحة بالضرورة، أي بمجرد ما تنتشر الثانية، تختفي الأولى؟ لنقرر مع «تدوروف» في كتابه السابق الذكر، الجملة التالية: «إن الهوية الفردية تنجم عن تقاطع عدة هويات جماعية» (ص59)، لنشرح: أن هذه الجملة هي إحدى أهم المسلمات من منظور الثقافات الأنثروبولوجية، بوصفها الثقافة التي تقف عند حدود الطبيعة، لذلك أصحاب هذا المنظور للثقافة يقررون أن الطفل عندما يولد لا بد من ثقافة تحتضنه، يستمد منها منظوره للعالم تدريجياً، وكذلك يستمد منها ما يعمق في داخله سلطة اللغة التي يفكر بها من جهة، ويتواصل بها مع العالم من جهة أخرى. لكنهم يقرون من جانب آخر أن الذات الإنسانية ليست دائرة مغلقة على نفسها، بحيث عندما يصل الإنسان إلى مرحلة عمرية معينة من تلقي ثقافته التي ولد عليها، تصبح دائرة ثقافته الذاتية قد اكتملت، وبالتالي ليس هناك من سبيل إلى استيعاب ثقافات أخرى مختلفة ومتنوعة، وتبنيها عن قناعة ضمن حياته الثقافية الفردية. بل العكس هو الصحيح، فاكتساب الثقافة بالنسبة للفرد ليس المعطى الجاهز الذي نتحصل عليه مرة واحدة وإلى الأبد. بل توجد دوائر متعددة من الثقافات المتنوعة التي تتعايش داخل الإنسان بفعل التواصل مع الآخرين، وبالتالي التأثر بهم أيضاً. فالذات تقوم بحالة امتصاص واستيعاب للثقافات الأخرى، وجعلها جزءاً من هويتها الذاتية، حتى لو أظهر الفرد ذاته عداءً ونفوراً لهذه الثقافة أو تلك. خذ على سبيل المثال مقولة «الإعجاز العلمي في القرآن الكريم» التي يتبناها الكثير من الكُتّاب الإسلاميين. فرغم الموقف المعادي والصريح لهم ضد الفلسفة التي تقف خلف العلم، إلا أنهم متورطون من العمق بالأثر الذي تركه تطور البحوث العلمية على تفكيرهم، وخياراته في اقتراح الموضوعات وطرحها. إن تعدد الدوائر الثقافية داخل الإنسان نابعة من عدة مجالات في حياته: ثقافة الطفولة، المدرسة، العمل، الأصدقاء. وهناك مجالات أشمل ضمن إطار المجتمع: ثقافة الأدباء والكُتّاب، ثقافة الصحفيين، ثقافة رجال الدين، ثقافة السياسيين... إلخ، وهكذا تتسع المجالات كلما توسعت العلاقات بين الناس حول العالم. إذن الخلاصة هي كالتالي: الحرية الفردية هي الخالصة من شوائب أثر الجماعات، بوصفها أحد الأوهام التي ترسخت جذورها وأدبياتها في الفكر السياسي الغربي.