ما كنت أريد أن يكون العنوان صادماً، ولذلك عدلتُ عن كتابته كاملًا، إنما كنت أتصور إلى جوار هذا أنه يخدم الفكرة التي أريد الحديث عنها. وقد كان الصديق إبراهيم بن عبدالرحمن التركي مدير تحرير الجزيرة للشؤون الثقافية هو -فيما أعلم- أول من سمّى برامج الحوار: (حمار المذيعين) قبل عدة سنوات قبل أن تتحوّل هذه البرامج إلى سُوق حوار، قرأت هذه التسمية في مقال ذكي من مقالات الأخ إبراهيم الاستباقية، فما عساه يسميها اليوم؟أردت أن أحفظ للصديق النبيل إبراهيم التركي حق السبق الذكي في تسميته برامج الحوار (حمار المذيعين)، وقد كان لماحاً، وإبراهيم هذا لمن لا يعرفه رجل مثقف خلوق متعفف قليل الكلام كثير التجنب، متواضع غير متكاثر، صدوق غير كذوب، فلكَ يا إبراهيم كل عرفاني، وقد تداعى الحديث بهذه الصورة فيما كنت أريد الحديث عن فكرةٍ أخرى لكني، عدت إليها الآن:فقد سمّى العروضيون قديماً بحر الرجز في الشعر العربي: (حمار الشعراء)؛ لكثرة ما ينظمون عليه قصائدهم، ومن غير المعقول من وجهة نظر علمية أن نقول إن هذه الكثرة تُعزى إلى استسهال الشعراء لبحر الرجز لأن ضبط الإيقاع لا يتجزأ، إنما الحوار الآن يموج به الفضاء لأنه لا يحتاج إلى أكثر من لسان، عندك لسان وقليل من الجرأة والفهلوة، تعال وستصبح محاوراً، هذا يُعزى إلى الاستسهال ليس كثرة نظم الشعراء على بحر الرجز، فالتسمية التي ابتدعها إبراهيم التركي -بالقياس- عجيبة وصادقة في ظني.فإذا أنا أردت النظر في عيّنة من برامج الحوار هذه كان لا بد أن أفهم التفاوت العجيب في طبيعتها، وقد كنت أقول إن الطبيعة الشخصية للمحاورين -ليس كلهم مذيعين- كثيراً ما تكون مانعاً من الوفاء لنزاهة الفكرة التي تُناقش، لأن التعصب أزمة لا تنجو منها حتى الأفكار وإن كانت قضايا. التعصبُ فخٌ معنويٌّ شديدُ الجاذبية، ومنه التعصبُ في فهم قيمة النفس وفي الفكرة عن النفس وفي تصور الكفاءة المهنية. • الآن إذا ذكرنا برنامجاً مثل (الاتجاه المعاكس) وآخر مثل (الثامنة مع داوود)، فوجه التشابه بينهما في ظني: أنهما نموذجان لجرأة الحوار ليس عمقهُ، ويترتب على الجرأة تغليب اللهجات على سمع ملايين الناس، كأن العقل لا يذكر إلا نفسه وما تأسس عليه، هذه صورة من صور الانغلاق على طبيعتنا الشخصيةِ نحنُ، إنها ذات تنازع الفكرة. • وإذا ذكرنا برنامجاً مثل (حوار العرب) فإن مفارقته تتبيّن في علو الكفاءة المهنية فيه، فاللغة تالية للفكرة وتالية لطبيعة المحاور، فهو مهني أكثر منه استعراضي أو متقمص لشجاعة مُدعاة. • وإذا ذكرنا برنامجاً مثل (حديث الخليج) فهو مثال لتحييد الشخص عن الموضوع، ولا أجد تفسيراً لهذا إلا أن د.الهتلان قد انطبخت معارفهُ، فتبخر منها النفس المتعصب. • أما (إضاءات)، ففيه خاصية مدهشة -في ظني- لم تنقطع: إن الدخيل يحاور بحسٍّ إنساني رفيع، أنا لا أشعر أنه يحاور بحس فرعوني استحواذي متسلّط، على أن الشعراء الذين نظموا على بحر الرجز كانوا إنسانيينَ غير متقحمين، هذا عمر بن أبي ربيعة يقول على بحر الرجز: فيهن هندٌ ليتني ما عُمِّرتْ أُعَمَّرُ.. حتى إذا ما جاءها حتفٌ أتاني القدرُ..