«للمقابر هيبة الهواء وسطوة الهباء. تشيّع صديقك وتنتظر دورك. تنقلك روائح الزهور الذابلة وحفيف الأشجار إلى البعيد، إلى ما وراء الشيء، إلى عنوانك الأخير في ناحية من نواحي العدم»، لكن مقابرنا لا زهور فيها، لا صاحية ولا ذابلة! ليس فيها غير الظلام والجن والأفاعي من كثرة الأشجار العتيقة والمتداخلة في بعضها واليابسة والتي إذا ما قدر لك أن تدخلها مشيِّعاً لإحدى الجنازات، وخاصة في الليل، دون أن تحمل (إتريكك) أو كشاف النور اليدوي، فإنك قد تتعرض للدغة ثعبان هامل أو تتعثر في جذع مكسور لشجرة هرمة! ف(تتدعفس) وتطيح أو يتلبسك جان فرَّ للتو من أحد القبور. أذكر أنني كنت في مقبرة (ما) قبل سنوات ثلاث أثناء دفن ميت قريب لي، وكان وضع المقبرة محزناً بالظلام العميم! وعرفت أن المقبرة كانت مضاءة في الليل حتى تدخل أحد العاملين السابقين في المحكمة وكاتب عدة جهات في الرياض من أجل قفل الأنوار، حتى تحقق مراده حماية للمقبرة من البدع والضلال مع أن النور والضوء خير ومعروف! والمفارقة أن هذا العامل لم يكن يحضر إلى مكتبه إلا بعد العاشرة صباحاً وهو كثير الغياب ولا ينجز أمور الناس بل يتلذذ بتعطيلهم فضلاً عن أنه لا يبتسم أبداً! وفي ذكرى وفاة شاعرنا الجميل علي النعمي أتذكر أنني كنت أحضر جنازته في المقبرة، قبل ثلاث سنوات، والذي ولد، أي علي النعمي، كما «وُلدنا لنتدرّب على اللعب البريء بالكلمات. ولم نكترث للموت الذي تَدقّه النساء الجميلات، كحبة جوز، بكعوب أحذيتهن العالية»، فكتبت يومها: مثلما قال الراحل محمود درويش مؤبناً صديقه الراحل ممدوح عدوان، أخاطبك يا شاعرنا وراحلنا العظيم يا أيها النعمي أيها المتعالي على التعالي، أيها العالي من فرط ما انحنيت بانضباط جنديٍ أمام «رديمة فلّ»!، ونظرت، حزيناً غاضباً، إلى أحذية الفقراء المثقوبة، فانحزت إلى طريقها الممتلئ بغبار الشرف. الشرف؟ يسألك المترجم: ما معنى هذه الكلمة؟ فلم أجدها في الطبعات الجديدة من المعاجم.