ويمضي إبراهيم البليهي في الحديث عن «الليبرالية»، وأبرز أبعادها وتأثيراتها، بوصف المجتمعات التي لا تسود فيها بأنها «متخلفة»، وينعتها بأنها «مختطفة»، بينما تلك التي تسود فيها الحرية هي بلاد متقدمة، ينعم أهلها بحياة طيبة ومبدعة. يقول في المرجع السابق الإشارة إليه: «إن الأمور في المجتمعات غير الليبرالية تقوم على الاستئثار والإخفاء وعدم الوضوح. فالمواطن مثل الراكب في طائرة مخطوفة…! لا يعرف أين الاتجاه ولا أين النهاية ولا كيف ستكون. لكن كما قال المتنبي (من يهن يسهل الهوان عليه). فالإنسان بطبيعته يعادي تلقائياً ما يجهله، ويرفض بعناد أعمى ما لم يألفه، مهما كانت أهميته له، لأن تلقائية الرفض وعمى هذه التلقائية لا تتيح إمعان النظر للتعرف على الجديد، وإنما يندفع الإنسان تلقائياً للمقاومة العمياء والرفض العنيد. وهذه هي المعضلة الإنسانية الكبرى؛ لأنه لا يمكن أن ينعتق الفرد ولا أن يزدهر المجتمع إلا بقبول الجديد، والتطلع للمغاير، وهو المستوى الذي يتعارض كلياً مع رفضه التلقائي الأعمى والعنيد لما يجهل. إنها مفارقة مأساوية. ولولا هذه المفارقة لما بقيت مجتمعات كثيرة متخلفة، رغم توفر إمكانيات ووسائل التقدم والازدهار»…! ويكرر تعريفه ل»الليبرالية» التي تحقق -في رأيه- كل هذه الوعود بأنها: «الفضاء الإنساني المفتوح الذي لم تتوصل إليه الإنسانية إلا بعد كفاح مرير. حيث عانت دهوراً طويلة من الاغتراب عن الذات وتعطيل القدرات. فظلت حبيسة التلقائية البليدة. ولكن بات هذا الفضاء بعد انهيار المعسكر الشيوعي، وإزالة جدار برلين، وتحطيم الستار الحديدي، مطلب ومآل كل الشعوب.. لأنه يتيح لأي مجتمع أن يحقق إنسانيته بأقصى ما تسمح به الطبيعة البشرية، وأن يعترف بفردية كل إنسان، وأن يبني نفسه بالشكل الذي يلائمه، وفق دينه وقيمه وإمكانيات ومتطلبات حياته. فالليبرالية تعني أن يتحقق بأعلى نسبة ممكنة: الوضوح والشفافية والعدالة والصدق والإخلاص والمساواة والتلازم بين الحقوق والواجبات، وتقدير الكفاءات واستثمار القابليات، وخلق الإمكانات وقطع أسباب الفساد والاستئثار». وبما أن الليبرالية فضاء مفتوح، يبرز هنا التساؤل عن ما الذي تضيفه للبشر، وهي فراغ، وليست ذات محتوى؟! وهنا، نجد أن البليهي يعد الليبرالية مجرد «وسيلة»، وليست عقيدة، أو بنياناً فكريا أيديولوجيا معينا… إنها -في رأيه- «فضاء»… إن توفر أبدع الإنسان، وتطور… ووفق الإطار العقائدي والتقاليدي الذي يريده. ولتوضيح ذلك يقول: «الفضاء يعني الإخلاء من العوائق، وفك القيود وإزالة السدود وإطلاق طاقات البناء المحبوسة، واستثمار العقول المعطلة، وإفساح المجال لنمو القابليات الكامنة. حيث تصبح المجتمعات حرة في اختيار ما يتم التلاؤم حوله بين قواها الصاعدة. إن كل الأفكار التي منحت الإنسانية إمكانات الازدهار وفجرت طاقات الإبداع كانت إطلاقاً للطاقات المعطلة، وتخفيفا من القيود السائدة، وتوسيعا لفضاءات المبادرات الفردية والجماعية، وفتحا لآفاق النشاط للعمل الجاد والفكر الخلاق. فالفكرة الليبرالية لا تقدم بديلاً محدداً عن أي وضع قائم، وإنما هي تفترض أن يتوفر الفضاء الضامن للاختيار الحر في مناخ من الحرية المنضبطة بالشرع والقانون. وبذلك يتدفق النشاط وتتاح المشاركة ويتحقق التكامل والإبداع والإنتاج، وينفك المجتمع من قيوده المعيقة، ويتاح فيه التنافس الحر بين القوى… في فضاء مفتوح لكل الأفراد والفئات والاتجاهات». ويمضي قائلا إن أي مجتمع يكون له، في هذا «الفضاء»: «حق الاختيار بين بدائل كثيرة. فالمجتمع في هذه الحالة يتحرك في فضاء مفتوح. فهو الذي يتولى تصميم البناء البديل وفق دينه وقيمه ومعطيات تاريخه وطموحاته ومتطلبات حياته، مستفيداً من التجارب الثرية المتنوعة للمجتمعات المزدهرة. فيبني البديل بنفسه دون أي تحديد من خارجه. فالليبرالية فضاء مفتوح، وليست بديلاً جاهزاً. ولكل مجتمع أن يبني في هذا الفضاء من المؤسسات والنظم، وأن يتخذ من الآليات ما يناسبه ويحقق طموحاته». أ . ه. أظن -والله أعلم- أن العبارات الأخيرة توضح، بشكل حاسم مفهوم البليهي ل»الليبرالية»… فهي -في رأيه- مجرد «وسيلة»، الهدف منها: تحقيق الإبداع والتقدم والانطلاق، في إطار المرجعية الدينية والتقاليدية الإيجابية لأي مجتمع في عالمنا المعاصر. ويبدو أنه يقصد أن هذه الوسيلة قابلة للتبني في أي مجتمع، وبما لا يتعارض ومعتقداته، وقيمه. إن كان الأمر كذلك، ربما يسوغ لنا الحديث عن ليبرالية مسيحية، وأخرى إسلامية، وثالثة بوذية، وهكذا. ولا يمكن، في الواقع، الجزم هنا قبل سماع رأى علمائنا الأجلاء.