يستحضرني من ملف عائلتي الكثير من المواقف والعبارات منها ما كنت أسمع والدتي (رحمها الله) تردده إما في خلوتها أو أثناء حديثها مع الآخرين. كانت بعض هذه العبارات تفوق قدرتي على إدراك معانيها أو فك طلاسمها. عبارات بسيطة مثل (ياليت زمان أول يعود) أو (يا ليتني صغيرة). بالطبع كنت حينها صغيرة وليس في جعبتي أي تاريخ أو ماض يمكنني من إجراء بعض الإسقاطات على الحديث وبالتالي ترجمة المعاني وفهم الوضع أو الانتماء إليه. وتمرّ الأيام والعقود وها أنذا أجدني أردّد عبارات والدتي ولكن هذه المرّه تحمل معها معان عميقة ومشاعر قوية وأخيراً أفهم ما كانت تقصده أمي. عندما نولد وحتى عمر الزهور نكون في الجانب الأول من سور الحياة لا نفهم تبعات الكثير من مواقف وحديث الكبار عن التجارب لأنها بالنسبة لنا جديدة خفيفة لا تحمل معها أي ملفات أو تراكمات أو تبعات، حياتنا صفحات بيضاء نخط فيها ما شئنا من قراءات وانعاكاسات لتجاربنا وحسب فهمنا وماهي إلا سنوات قليلة من هذه التجارب حتى نجد أنفسنا وقد انتقلنا إلى الجانب الآخر من السور فتختلف قراءاتنا للتجارب ذاتها بشكل جذري. للزمن بما يحمله من تجارب أثر كبير على تطور خبرة الإنسان حيث تتراكم التجارب فتصبح كالمراجع المخزنة في عقله يعود إليها كلما مر بتجربة مماثلة ومن هنا تأتي الخبرة وأحياناً الحكمة. وأقول أحياناً وليس دائماً لأن الحكمة ليست مرتبطة بالخبرة أو عدد السنوات ونوع التجارب التي يخوضها الإنسان أو المستوى الدراسي أو الثقافي بل إن ارتباطها يكون وثيقاً بدرجة الوعي لدى الأفراد وقدرتهم على سبر أغوار التجربة وتحليلها بشكل واع وغير متحيّز ومن ثم تصبح حكمة ويطلق على صاحبها حكيم أو حكيمة. وما كانت تقصده أمي هو أن «أيام أول» بالنسبة لها كانت صفحة بيضاء جميلة.