شدتني مقالة للكاتب د. طارق العتيبي بعنوان (الإنسان ذو البعد الواحد) لحديثها عن كتاب مهم يحمل هذا العنوان وهو لفيلسوف مهم يبدو أنه سيكون هناك عودة لنظرياته مع الربيع العربي المعاصر، واستثارتني تلك المقالة للكتابة عن ماركيوز أو (ماركوزه : كما تنطق بالألمانية) من زاوية أخرى. عندما سأل ماركوزه (1898 – 1979) في أواخر حياته من سيقود حركة التغيير في العالم، أجاب بقوله: لم يعد في العالم عمّال، لقد تحول العمال إلى برجوازية صغيرة، تحولوا إلى موظفين. الذي سيقود حركة التغيير في العالم طبقة من نوع آخر: الشباب. ماركوزه هو أحد الفلاسفة المهممّين الذين عاشوا في القرن العشرين. وصف نفسه ذات مرة بأنه تلميذ لهيغل ونتشه وماركس وفرويد وهايدجر، برغم أنه لم يلتق فعلاً في حياته إلا بالأخير منهم. لكنه تتلمذ على كتب الآخرين وتأثر بهم جميعاً على ما بينهم من اختلاف وتناقض حاد. ما ورد في جواب ماركيوز عن اختفاء الطبقة العمالية التي كان يزعم كارل ماركس أنها ستغير العالم وستقود الإصلاح من خلال ثورة البروليتاريا، هو كلام صحيح، فقد تحول العمّال إلى موظفين وفقدوا الرابطة التي كانت تجمعهم في ظل المجتمع الصناعي في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وبالتالي لم تعد هي الطبقة التي يعوّل عليها لإحداث التغيير. لقد تحسنت أحوالها وأصبحت بورجوازية صغيرة – بحسب الاصطلاح الماركسي – ولم تعد تشعر بالقهر الاجتماعي الذي يوصلها لحد الثورة. ولذلك قرر ماركوزه في نهاية كتابه (الإنسان ذو البعد الواحد) أن خلاص المجتمع لن يتم على يد أي جماعة من الجماعات المندمجة فيه. بل سيتم على أيدي الهامشيين والشباب المرفوض المضطهد الخارج عن عملية الإنتاج. وقد قابل الشباب الغربي في المجتمعات الصناعية في أوروبا وأمريكا، هذه الدعوة بترحيب كبير وسرعان ما أصبح ماركوزه بطلاً في أعينهم، بعد أن بقي مغموراً لعقود. وكيف لا يرحبون به وقد جعلهم يشعرون بأنهم الورثة الحقيقيين لروح الثورة في العالم! ماذا يريد الشباب من بطلهم إلا أن يحترمهم ويحترم معتقداتهم ويسعى لتحقيق أمالهم؟! وألا ينظر إليهم على أنهم قطاع من البشر المدمنين على المخدرات والذين لا يصلحون لشيء. ماذا كان ماركوزه ليقول وقد تحققت مقولته تلك اليوم – ليس في الغرب – بل في العالم العربي. ها هم الشباب وقد أحدثوا التغييرات العميقة ليس فقط في قلب نظام الحكم في عدد من الدول العربية، بل في قلب نظم التفكير و إحداث هذا التغيير السيكولوجي المتطرف في الروح العربية. إلا أن الشباب الذين أحدثوا الثورة في العالم العربي قد صدموا صدمة قوية بالواقع. فأجواء الثورة شيء، وأجواء وظروف ما بعد الثورة وتأسيس الدولة الجديدة شيء آخر. لقد انتهى دور الشباب عند إسقاط النظام. وحينما جاء دور التأسيس لدولة جديدة ظهرت القوى السياسية المنظمة الممنهجة الموجودة على الأرض لتقوم بهذا الدور. هذا هو عالم السياسة. هناك قوى على الأرض تتحكم وتفرض رأيها في ظل أي نظام كان. حدث هذا في تونس وليبيا ومصر واليمن، وعندما يسقط بشار الأسد فسيأتي التجار ورجال الأعمال الذين شاركوه حكمه لكي يشاركوا في الحكم عند قيام سورية الجديدة. هذا واقع لا يمكن لعاقل أن يتجاهله. لقد كان الزعماء المحنكين على علاقة دائمة بالشباب، لا يغفلون عنهم طرفة عين. ونحن نتذكر على سبيل المثال ما يعرف بشبيبة هتلر وكيف كانت علاقته بهم. والأمثلة على ذلك كثيرة. كلهم كانوا يستميلون الشباب بهدف تقريبهم وعيش دور البطل بالنسبة لهم، كما أن في ذلك احتوائهم وتوجيه طاقتهم في المسار المناسب. في تصوري أن هذا ما يجب أن يكون من قبل كل قادة الدول العربية التي يهمنا استقرارها وبعدها عن أجواء الفوضى التي تحدثها الثورات. أن يكون هناك التفاتة حقيقية صادقة للشباب تبعد عنهم هذا الشعور بالتهميش والعيش على ضفاف الحياة الاجتماعية والمعاناة من كابوس الخوف من المستقبل الأسود والخروج بهم دهاليز الإحباط والفساد والإحساس بالغبن والانزلاق للعبثية. يحتاجون أيد أبوية حانية تسعى بأولوية كبيرة لإبعاد هذا الشبح المخيف الذي يطارد أغلبيتهم اليوم، أعني الخوف من المستقبل، وعدم الاستقرار النفسي، والعجز عن الشعور بالاطمئنان تجاه المستقبل الوظيفي والحياة بصفة عامة. الشباب بحاجة لأن يكونوا زعماء البلاد هم أبطالهم الذين يساعدونهم للتخلص من هذا كله كي ينتقلوا عنه لنظرة متفائلة سعيدة. الاستثمار في هذا الإنسان أولى من أي استثمار دنيوي آخر.