«لقد سرق خبزة». عبارة افتتاحية لقصة قصيرة لفيكتور هوجو يصور فيها «لحظة حرجة» في تاريخ الشعوب حين يقام الحد على الوضيع ويجرجر في الشوارع بثيابه الرثة وأقدامه المدماة وشعره المنكوش فيما تتبختر أمامه عربة نبلاء يرى من نوافذها المحجوبة بستائر رقيقة بذخاً لم يحلم به. اللحظة الحرجة في القصة لحظة معرفية بامتياز، فالأشعث الأغبر وهو يجرجر كان في داخله بلا شك خوف وجلد لنفسه الأمارة بالسوء حين دعته للسرقة فاستجاب، لكن رؤية العربة كانت كفيلة بتغيير تفكيره ونفسيته! أترك القصة لأتابع في تويتر حدثين مؤلمين: الأول عن تحقيقات جدة التي تبخر مجرموها، ومعاق نجران الذي سيحز عنقه لأنه قبل بضعة عشر عاماً لم يقبل أن ينتهك عرضه فقتل مهاجمه! أغلقت الذي يأتيني بما يوجع، وعدت لكتاب حمادي ذويب «السنة بين الأصول والتاريخ». والكتاب يقرر فيما يقرر أن مصطلح سنة مصطلح غير متفق على معناه منذ ظهوره الأول حتى جاء الشافعي فجعله علماً على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. والحقيقة أننا في مرحلة في عمر تاريخ أمتنا الإسلامية نحتاج مراجعات جادة لكثير من مسلماتنا لنعرف علام نقبض وماذا نهمل، أقولها وأنا أتابع مأزق إخوتنا المصريين في اختيار حاكمهم الجديد بين فلول النظام القديم وبين من يحدثهم باسم الدين ولا يعرفون بالضبط أي أوجه الدين يعني. كتاب حمادي ذويب الذي يتبع المنهج التاريخي في البحث أشعرني بالملل فتركته لأقرأ في تاريخ الثورات في العالم. قرأت مطولاً في الأسباب فوجدت أن الشعوب لا تثور حين تجوع، بل حين تستفز، وهذا الاستفزاز مرحلة تالية للجوع، ولها صور متعددة، أي واحد منها قد يشعل ثورة: حين تستفز الطبقات المخملية الكادحين باستعراض ترفها وثرائها. حين يستفز القضاء الشعوب فيكون جبروته سلاحاً عليها لا لها. حين تستفز طبقة رجال الدين الشعوب بممالأتها الظاهرة للسلطة. وحين يستفز السلطان شعبه بإطلاق أيدي كل هؤلاء في أعناق وأرزاق وأحلام الشعب. القرآن الكريم هذا الكتاب العظيم يقدم في هذا المجال قانوناً طبيعياً خطيراً يحسم القضية، فهو يقول متى ما رأيتم الترف والفساد يتعاضدان فاعتبروا ذلك علامة على هلاك الدول «وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلون علواً كبيراً فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار». وما حصل مع بني إسرائيل أمر عجيب، فالله تعالى يمنحهم فرصة ثم فرصة، وهم يعودون لعادتهم وتعود الطبيعة لتعمل بقانونها الذي أملاه سبحانه وتعالى «وإن عدتم عدنا». أما كيف يستحقون هذا السحق والتدمير فالأسباب مفصلة أيضاً في القرآن «وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم القول فدمرناها تدميرا» و» كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها». والأكابر طبقة تنشأ للضرورة في كل دولة، تنشأ أولاً في صورة وزراء، والوزير من الوزر (أي الحمل الثقيل) كما يقرر شيخنا الشعراوي، لكن المال والكرسي ينسيان الوزير الوزر حين تغرقه في الراحة والوجاهة. مع الوقت تتبرعم طبقة الأكابر وتتكاثر في ثنايا القصور حتى تصبح سلطة فوق السلطة لتصل للمرحلة التي تستفز فيها الشعوب. والأعجب أن التاريخ دوماً يعيد نفسه، وبذات التفاصيل حتى يكاد المراقب يعتقد أن من يتولى مراحل إعداد وتثقيف الحكام لا يضمن مادة التاريخ بمؤامرة من الحاشية والمتنفعين لينالوا مكاسبهم الوقتية ولتحترق الدولة بعدها، أو أن هؤلاء يوسوسون لكل حاكم بأن يطمئن فذلك لن يحصل معه، ومبعث الطمأنينة يأتي من حشد العسكر؛ تذكروا «أكابر مجرميها». حين أتذكر طلب فرعون العجيب «يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى». القرآن يسكت عن رد فعل هامان، ولا أظنه قد راجع فرعونه في الطلب الغريب قائلاً: مولاي عندنا التزامات أهم، وثمة بنود في الميزانية يجب أن نتقيد بها. أظنه والله أعلم قد سأل عقله الشاطر في الحساب: كم سيكلف هذا الصرح؟ ثم يضرب الرقم في اثنين أو مضاعفاتها حسب سعة ذمته، ويقدم لفرعونه أوراق اعتماد مشروع بناء الصرح برقم فلكي يزيد مخازن قروشه الخاصة. عدت لتويتر فوجدته يحكي عن جامعيين يتخاطفون وظيفة عامل نظافة، ولا عيب في العمل، طالما أن من يبحث لا يمر بلحظة حرجة.