ذكرني أحد جلسائي بأبيات من الشعر، كنت نسيتها، وهي من أثير الشعر إلى نفسي. خلت فلسطين من أبنائها النجب وأقْفَرت من بني أبنائها الشهب طارت على الشاطئ الخالي حمائمُه وأقلعت سفن الإسلام والعرب يا أخت أندلس صبرًا وتضحية وطولَ صبر على الأرزاء والنَّوَب ذهبتِ في لجَّةِ الأيام ضائعة ضياعَ أندلسٍ من قبل في الحِقَب وطوحت ببنيكِ الصيد نازلة بمثلها أمة الإسلام لم تصبِ ! وتداعت بي الذكريات إلى كتيب كنت قرأته زمن المراهقة، وشدني بتفسيره الجديد لآيات سورة الإسراء: “وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب، لتفسدن في الأرض مرتين، ولتعلن علوًا كبيرًا، فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأس شديد، فجاسوا خلال الديار، وكان وعدًا مفعولًا، ثم رددنا لكم الكرة عليهم، وأمددناكم بأموال وبنين، وجعلناكم أكثر نفيرا، إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، وإن أسأتم فلها، فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيرا، عسى ربكم أن يرحمكم، وإن عدتم عدنا، وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا” أظنه الشيخ: أسعد بيوض التميمي، يقرر في ذلك الكتاب أن وعد الآخرة هنا هو الاحتشاد اليهودي الحالي، وما أمد الله به شعب بني إسرائيل من الأموال والبنين والنفير، وما يتبعه من تسليط غيرهم عليهم ليسوءوا وجوههم، “وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيرا”. وذلك مرتبط موضوعيًا بقوله -تعالى- في آخر السورة ذاتها: “فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفًا”. وسواء كان هذا التفسير للآيات سديدًا، كما مال إليه جمع من المعاصرين، كتابًا ومتحدثين ومفسرين، أو كان الأمر كما قاله الطبري في تفسيره: “وأما إفسادهم في الأرض المرة الآخرة، فلا اختلاف بين أهل العلم، أنه كان قتلهم يحيى بن زكريا”. فإن قوله -تعالى-: “وإن عدتم عدنا” متضمن للإفسادات المتلاحقة التي يجترحها شعب إسرائيل، والعقوبات العادلة التي يتلقاها دون اعتبار. وفي سورة الأعراف: “وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب”. وهذا؛ لأنهم رفضوا الرحمة التي وعدوا بها “عسى ربكم أن يرحمكم” وهي بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان رحمة لهم وللعالمين، فحقت عليهم كلمة العذاب، ففرقهم الله -تعالى- في الأرض أممًا، وسلط عليهم الجبارين، وفي كتابهم التوراة تجيء هذه الكلمات المتقاطعة: “واستأصلهم الرب من أرضهم بغضب، وألقاهم إلى أرض أخرى”. “يجلب الرب عليك أمة من بعيد، من أقصى الأرض، كما يطير النسر، أمة لا تفهم لسانها، أمة جافية الوجه، لا تهاب الشيخ، ولا تحن إلى الولد”. “ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصى الأرض إلى أقصاها، وفي تلك الأمم لا يكون قرار لقدمك، بل يعطيك الرب هناك قلبًا مرتجفًا، وكلال العينين، وذبول النفس، وتكون حياتك معلقة قدامك، وترتعب ليلًا ونهارًا، ولا تأمن على حياتك”. “يرد الرب سبيلك، ويرحمك، ويجمعك من جميع الشعوب التي بددك إليهم، إن يكن بددك إلى أقصى السماوات فمن هناك يجمعك الرب.. ويحسن إليك، ويكثرك أكثر من آبائك”. إن اختيار اليهود لفلسطين بالذات كان قطعًا لاعتبارات دينية وتاريخية، وليس اقتصادية أو سياسية، ولذا دفعوا ويدفعون الثمن غاليًا لهذا الاختيار، فقد يجوز لو أنهم اختاروا أي بلد آخر في العالم، أو في العالم الإسلامي لاستقروا فيه، ونسي، ونُسوا. ولكن كيف تُنسى أرض نوه الله بذكرها في القرآن؟ كيف تمحى الأرض المقدسة من ذاكرة المسلمين؟ كيف تغيب القرى التي بارك الله فيها؟ كيف يهدر المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله؟ أم كيف لهم أن يختاروا غيرها، وهي موعد الملاحم التي يصرخ فيها الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبدالله، هذا يهودي ورائي فاقتله. “هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، يخربون بيوتهم بأيديهم، وأيدي المؤمنين، فاعتبروا يا أولي الأبصار”. إنها السنن، أهل القلاع والحصون والمنعة والسلاح يخطئون في حساباتهم، فيضطرون للتراجع والانسحاب، ويخربون بيوتهم بأيديهم مباشرة، وبأيدي المؤمنين المنصورين عليهم. وها هو حلم إسرائيل الكبرى، وشهوة التوسع والابتلاع.. ترتد أعباءً مادية، ومعنوية، داخلية ودولية، ومن ثم تتحول تلك الأحلام إلى تصورات واقعية، لا تلغي من حولها ولا تعتد بقوتها، ولا تبالغ في الاعتماد على العنصر الخارجي. وإذا كان للعولمة آثار سيئة ضخمة في شتى مجالات الحياة، فربما كان من إيجابياتها أن الدور الريادي والمنفرد الذي كانت تقوم به إسرائيل في خدمة المشروع الغربي لم يعد بذاك الوهج والقوة والمركزية، فنطاق المصالح أصبح أوسع وأشمل، وتأمين المستقبل صار أسهل وأمكن، والتبرم الشعبي مما يقتطع من قوته لصالح اليهود بدأ ينمو، ومثله التبرم الثقافي والعلمي من الاستخدام السيئ لقانون معاداة السامية، والذي يؤخذ به كثير من المؤرخين والمحللين والباحثين بحجة العنصرية ومعاداة اليهود لمجرد تشكيكهم في المحرقة، أو في بعض جوانبها وتفصيلاتها. الكثيرون يصيبهم الرعب حينما يسمعون التقارير المؤكدة عن امتلاك اليهود لمئتي رأس نووي، أو امتلاكهم لسلاح الجمرة الخبيثة، أو تطويرهم لأنواع أخرى من الأسلحة الجرثومية أو سواها. وهذا دون شك أمر مقلق فعلًا، ومن حق الشعوب المستهدفة أن تبدي دهشتها واعتراضها. لكن..من يدري؟ ها هي الدول الشرقية تعاني من تبعات تدمير الأسلحة النووية التي خلفها لها الاتحاد السوفيتي، وتعاني من تكاليف الرقابة الفنية والأمنية عليها، ها هو السلاح الذي كان مصدر رعب وقوة يصبح في الدول ذاتها مصدر ضعف وخوف. العولمة تقدم آليات جديدة للصراع، في مقدمتها تكنولوجيا المعلومات، وشبكة الاتصالات، وسباق الإبداع والابتكار. بالتأكيد؛ هذا لا يلغي آليات الصراع التقليدية، لكنها لم تعد في الصدارة في هذه المرحلة. إسرائيل متفوقة في الأولى، كما هي متفوقة في الثانية أيضًا، وكما كانت تقدم نفسها على أنها الحارس الأمين لمصالح الغرب المادية، فهي تقدم نفسها أيضًا على أنها النموذج الحضاري المتفوق في الأرض العربية. فهل نعي ما يجب علينا فعله في دوامة هذا الصراع؟