أمسك غاندي بحفنة ملح في يده، وقال “سوف أزلزل أركان الإمبراطورية البريطانية بهذه” ... ربما كانت تلك الحفنة من الملح، هي المسمار الأخير الذي دُقَ في نعش إمبراطورية بريطانيا العظمى، أو الإمبراطورية “التي كانت لا تغيب عنها الشمس” على امتداد 33 مليون كيلو متر مربع حول العالم، أو ما يعادل ربع مساحة الكرة الأرضية المعروف حينئذ. ومسيرة الملح هي جزء أساسي من مسيرة كفاح سلمية، كان غاندي بدأها قبل ذلك بسنوات، من أجل تحرير بلاده من الاستعمار البريطاني العسكري، والتبعية الاقتصادية، وهما هدفان احتلا نفس الأهمية في نضال غاندي. ففي فبراير 1930م، قرر حزب المؤتمر الهندي، بزعامة غاندي، مواصلة إستراتيجية العصيان المدني للحصول على الحكم الذاتي، عبر رفض دفع ضريبة الملح، التي فرضها البريطانيون، والسير نحو مصنع الملح في داندي، تأكيداً لرفض الهنود احتكار البريطانيين لصناعة الملح في البلاد، وحق الهنود في القيام بتصنيع الملح بأنفسهم، بل واستعادة السيطرة على كل الصناعات الوطنية التي تحتكرها بريطانيا. وكتب غاندي كان يبلغ 61 سنة في ذلك الحين- في جريدة “يانج انديان” (الهندي الشاب) الأسبوعية، التي كان أسسها قبل ذلك بسنة “ربما فكر البريطانيون في ظلم كل هندي، بفرض ضريبة على الماء، ثم وجدوا أن ذلك مستحيل. ولهذا فرضوا ضريبة على الملح، وبدأوا ظلماً قاسياً لمئات الملايين من الجوعى والضعفاء”. وشكلت “مسيرة الملح” التي جرت في الفترة من 12 مارس وحتى 6 أبريل 1930م الحدثَ الأهم في الملحمة الغاندية، فهي مسيرة كرست لحملةَ العصيان المدني في الهند، والتي كان هدفها المعلن ليس أقل من الحصول على استقلال الهند بالكامل، حيث سبقها بعشر سنوات، وتحديداً في عام 1920م، تبني الهنود بزعامة غاندي حملة مقاطعة شركات النسيج البريطانية، والاكتفاء بالإنتاج الوطني الهندي، مما كان له أبلغ الأثر في صناعة النسيج البريطانية، حيث أوشكت كثير من شركات النسيج البريطانية في ذلك الوقت على الإفلاس، جراء هذه المقاطعة، وكان غاندي قد قاد حملة المقاطعة تلك تحت شعار “احمل مغزلك، واتبعني”. في ذلك اليوم الذي خرق فيه غاندي عن عمد القانون البريطاني، من خلال التقاط قليل من الملح الذي خلفته الأمواج على شاطئ بحر العرب، وبعد أن قاد مسيرة على الأقدام لمسافة تجاوزت 400 كيلومتر إلى المحيط، استمرت ل 23 يوماً، وشاهده فيها كل الهنود على جانبي الطريق، في احتجاج صارخ على احتكار الإنجليز للملح، توّج مسيرته تلك بدعوته للهنود لاستخراج الملح بأنفسهم، وعدم دفع ضريبة لأحد على ذلك. وتسببت المسيرة في سجن 80 ألفاً من الهنود، ممن باعوا الملح أو صنعوه بدون دفع الضريبة، واعتقل غاندي في 5 مايو 1930، ولفتت المسيرة انتباه العالم إلى حركة استقلال الهند،واستمرت المقاومة ضد ضريبة الملح لمدة سنة تقريباً، وانتهت مع إطلاق سراح غاندي من السجن، ومفاوضات المائدة المستديرة الثانية مع الحاكم البريطاني اللورد إيروين في لندن. في تلك المفاوضات بين غاندي والحاكم البريطاني، لم تكن المفاوضات تعني غاندي كثيراً، بل إن أكثر ما أسعده هو أن هذه القوة التي أظهرها الهنود في مواجهة الاحتلال جعلت الاستقلال الكلي عن بريطانيا أمراً ممكناً، وجعلت المفاوض الهندي يجلس في موقع الندية -إن لم يكن موقع القوة- مع نائب الملكة البريطاني، جعلت الحاكم البريطاني بكل ما كان يحمله من أوسمة ونياشين يجلس على مائدة واحدة، إلى شخص نصف عارٍ، ذي بنية ضعيفة، وقامة قصيرة، وهنا فقط عندما سقطت العزة البريطانية، لتحل مكانها عزة الهنود، تحقق بالفعل استقلال الهند عن التاج البريطاني، والذي كان جاء بصورة رسمية في عام 1947م.