أعجبتني هذه الجملة فجعلتها عنواناً، وهي من كلام عبدالرحمن بدوي في كتابه من تاريخ الإلحاد حيث قال: (ثم شاهدنا هذه الحركة المتصاعدة تبلغ أوجها عند ابن الراوندي فبعد أن كانت مجرد مزاج روحي أو موقف فكري مؤقت غير واضح، صارت مذهباً شاملاً أقيم على أسس من العقل). وهو كلام في منتهى الدقة والملاحظة من منطلق الشواهد التاريخية ولم يرتد مؤمن إلى الإلحاد في غمضة عين أو في يوم واحد، بل يتدرج به الأمر من الحالة النفسية والقلق والشك إلى حالة التساؤل العقلي والبحث عن إجابات مقنعة لتلك الحالة النفسية وبعد ذلك يأتي التبرير والتنظير. وإذا تأملت قضية الإلحاد منذ القدم إلى يومنا هذا فستجدها تنطلق من منطلقين، منطلق نفسي، ومنطلق عقلي. وكلا المنطلقين لا يستهان بهما حيث النوازع سواء العقلية أو النفسية لها تحكمٌ وسيطرةٌ على الأفكار والمزاج لكل شخص، ومن ثم يكون العلاج في غاية الصعوبة، إلا من أدركته العناية قبل فوات الأوان. وأحياناً تكون النزعة النفسية أشدَّ شراسةً من النزعة العقلية لأن العقل علاجه العقل المضاد، أما النفس فليس علاجها في الجدل والمناظرة والأدِّلة والتأصيل، بل هي قضية أعمق من ذلك وهي حالة تتعلَّق بالرضا والوجدان والقناعة والتعلُّق والانتماء وما إلى ذلك. وهذا ملاحظ حتى في مقاومة التهديد والصبر على الأذى والقتل فداء للمذهب أو الدين أو الرأي، فالعقلانيون أضعف صبراً وثباتاً على مذاهبهم من الروحانيين، أو الذين ينطلقون من القناعة النفسية. ولنتحدث باختصار عن: النزعة النفسية: ولأهمية هذا الجانب يصدّر عبدالرحمن بدوي كتابه بكلمة مرّت في المقال السابق حيث يقول:(الإلحاد نتيجة لازمة لحالة النفس التي استنفدت كل إمكانياتها الدينية فلم يعد في وسعها بعد أن تؤمن). ويرى أنه العامل الرئيس في الإلحاد. لأن استنفاد النفس كلَّ ما بوسعها حيال الدين معناه الجفاف الذي يأتي على منابع التصديق والشعور والقناعة فيسدّها وتتوقف النفس عن المضي في هذا الإيمان لأنها لم تعد تحسّه أو تتذوقه أو تشعر أنه لازم لسعادتها أو إشباعها. وهذا له تعلّق خطير بالجانب الحضاري وتراجعه. وهذه دعوة لفك الجمود الذي أعتبره في رأيي الخاص سبباً مهماً وعاملاً قوياً في الجفاف النفسي والروحي. والجمود الذي أعنيه ليس كما يدندن عليه كثير من أهل الأقلام قديماً وحديثاً هو الجمود الفقهي، لأن هذه القضية غير معنية عند عوام الناس وغير أهل الفقه بالشكل الذي يدعو إلى كراهية الدين أو الذي يدعوهم إلى الوقوف في وجه الحقائق الكبرى لأن الناس إذا ضاقت بمذهب أو عالم اتجهت إلى غيره أو تجاوزت الجمود بطريقة أو بأخرى. الجمود الذي نريده هنا، ويعتبر أساساً في تحطيم نفوس الخاصة والعامة، والذي يغلق طريق الترقي والشعور عند المسلمين، هو الجمود الروحي والعاطفي الوجداني، والجمود الفكري التأملي. فالجمود الروحي والعاطفي يسبب ضعف الحب الإلهي والتعلّق الوجداني بالله ورسوله وكل ما يتعلّق بهذا الجانب. والجمود الفكري التأملي يسبب الملل ويقطع الجريان الإيماني ومن هنا نفهم قول الحبيب الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (إن الإيمان ليخلُق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم). ونستطيع أن نفك هذا الجمود، بإحياء النفسية الغيبية والجانب التنزيهي في التصورات، وتعميق التجريد الذي بات ضعيفاً أمام النزعة التجسيدية في بعض المسلمين، الذين انحرفوا وبدأوا يتخيلون الذات الإلهية ويضعون لها رسومات من واقع تصوراتهم أو أدبياتهم التي تلقوها وذهب بهم ذلك إلى الإلحاد. وفك الجمود يأتي كذلك من علاج الشبهات عند الناس والإصغاء إلى تساؤلاتهم البريئة أو غير البريئة مما حاك في نفوسهم ولم يجدوا له إجابات شافية، دون إعلان أو تشغيب أو اتهام أو فضح لمستور. وقد كان الصحابة يأتون إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ويشكون إليه من وساوس وشبهات فكان يقول: (ذلك محض الإيمان) أو (ذاك صريح الإيمان). وكثير من الأسئلة وردت عليه فكان يجيب عليها صلَّى الله عليه وسلَّم بكل هدوء دون توتُّر أو عنف أو عقاب. وكذلك الأنبياء من قبل. وأقولها بحق: إنني ألحظ عطشاً من كثير من الناس سببه تساؤلات وشبهات ألقى بها الفضاء المفتوح على سائر الثقافات، ومع الأسف لا يجدون المؤهلين لإشباع النهمة أو إرواء الظمأ. هناك عوامل نفسية تأتي بعد العامل الرئيس من أبرزها: الكبر وهو الذي عصا به إبليس ربه عندما أمره بالسجود لآدم، ولكنه فيما بعد بدأ يتجه من حالة نفسية واضحة إلى حالة معقدة نفسية وفكرية. والكبر وقع به كثير من الناس في هذا الطريق وكان الخطوة الأولى، فبعضهم تكبَّر أن يكون نبيّ الإسلام من العرب كما فعلت اليهود وإن لم يلحدوا بالله إلا أن غيرهم من مشركي قريش والدهريين منهم تكبَّروا، والذين اتبعوا مسيلمة الكذاب تكبَّروا على نبوة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم واتبعوا حميتهم الجاهلية. وفي العالم من يرفضون الإسلام وغيره كبراً وعلواً وآثروا الإلحاد على التبعية. ومن أسباب الإلحاد النفسية الانتقام، وهذا الانتقام قضية قديمة إذ يرى عبدالرحمن بدوي أن الانتقام والعصبية القومية والشعوبية هي عامل من أكبر العوامل لانتشار الإلحاد في الحضارة العربية. ولذلك جاء الزنادقة الشعوبيون كلهم من موالي الفرس المانوية. ولي وجهة نظر في هذا الكلام يحتاج إلى توسُّع ليس هذا محله. ولكن الانتقام كحالة نفسية ليست خاصة بموالي الفرس، بل وجدنا من العرب من قريش وغيرها يرفضون الإسلام جملة وتفصيلاً من منطلق الانتقام، وكثير منهم مات على ذلك. بل إن في عصرنا من المفكرين الكبار اعترفوا بعد عودتهم إلى الله أن سبب إلحادهم أو شكوكهم كانت ردّة فعل لتصرفات لم تكن محسوبة من رجال الدين أو الجماعات الإسلامية والتنظيمات السرية. ومن الأسباب التي أشار إليها الدكتور بدوي طلب الحرية والهروب من ثقل التكاليف الدينية والبحث عن الأحداث التي تلهب الشعور والهروب من الإله إلى المعنى الإنساني والارتقاء به ومن أبرز الشكاك في هذا الجانب من كانوا يدعون بعصابة المجان أهل العبث والشك من أمثال أبي نواس وبشار بن برد وصالح بن عبدالقدوس وحماد عجرد وأبان بن عبدالحميد على خلاف في وصف بعضهم بالزندقة. هؤلاء أقرب إلى الشك والمجون والعبث من الإلحاد والزندقة، وقد وجدوا في العصبية القومية والشعوبية ضالتهم فامتطوها. ويشير إلى طائفة تتخذ من الزندقة وسيلة إلى العبث الفكري يلجأ إليها الشكاك دائماً يرومون العبث بعقائد الناس بحثاً عن العزاء والسلوى لما يعانون أشار إليها بكلمة نافذة كعادته قائلاً: فهي حالة نفسية عنيفة تتملكهم فتدفعهم إلى ما هو أشبه باللهو الفكري والمجون الشكي منه إلى أي شيء آخر. إنهم على رؤى الدكتور بدوي في حالة من الضيق والقلق والحيرة التي تدفعهم إلى هذا العبث. ونحن نشاهد نوعاً كهذه الطائفة تظهر من وقت لآخر وكأنها تعلن عن نفسها، وكثر الكلام حولها، استجداء لمدرك أو طلباً للنجاة، أو إقناعاً نهائياً بالإلحاد، وعلينا نحن دور كبير في التعامل مع هؤلاء بنفسية المنقذ، وأصحاب المسؤولية في إدراكهم. إن هذه النزعة النفسية بعضها أو كلها أدَّت بكثير من هؤلاء إلى البحث عن الحرية الفكرية وأعلنوا آراءهم في حقبة من التاريخ وماتوا في سبيل تلك الحرية وفداء لها وقتل فيها المئات من المثقفين والمفكرين والأدباء من أهل الإلحاد، وهذا يشعر بأنها نزعة نفسية يجب علاجها في أي مجتمع قبل أن تتفاقم. وقد وصفها عبدالرحمن بدوي بأنها (تيار روحي خطير) واعتبر تيار الإلحادية في الدولة والحضارة الإسلامية: (من أخطر النزعات التوجيهية في الإسلام ومن أطرف وأخصب تيارات الإلحاد العالمي في تاريخ الإنسانية الروحي).