هناك سؤال دائماً ما يُتداول وهو لماذا الإنسان العربي لا يبدع أو يخترع أو يتفوق في بيئته، وقد تجده مخترعاً في الغرب؟ هل هناك تجفيف للعلم في العالم العربي من منابعه (نظرية المؤامرة)، ضعف المؤسسات العلمية وخصوصاً الجامعات، الميزانيات والصرف على البحث العلمي، كلها أسباب معقولة لكنها غير كافية لإعاقة المعرفة، لأنَّ هناك مجتمعات أقل في الإمكانات وأكثر إنتاجاً معرفياً. يقول عالم النفس الشهير «جان بياجيه» إنَّ عقلية شعبٍ ما لا تتعلق بعرقه بقدر ما تتعلق بتاريخه الاقتصادي، وبالتطور التاريخي لتقنياته وتصوراته الجماعية»، من هنا يرى التفسير النفسي والاجتماعي إنَّ المشكلة تكمن في «النظام المعرفي» وهو «جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات تعطي للمعرفة بنيتها اللاشعورية. والعقل الجمعي واللاشعور الجمعي مصطلحات تشير إلى امتلاك آليات وأساليب تفكير مشتركة لدى أفراد المجتمع، وكما أنَّ هناك وعي ولا وعي فردي هناك أيضاً وعي ولا وعي جمعي، بمعنى أنَّ هناك أنماط وأساليب تفكير ترسخت عبر حقب تاريخيَّة من العادات والقيم والأساطير والحكايات الشعبية استدخلت واُستدمجت وأصبحت جزء ومكوِّن رئيسي من بنائية ووظيفة عقل الفرد، ومن ثمَّ أصبحت أنماط تفكير شائعة لدى أفراد المجتمع ويمارسونها بشكل واعي وغير واعي، أي أنَّ أفراد المجتمع يفكرون بأساليب وطرق متشابهة ممَّا يجعل وعيهم وفهمهم وتفاعلهم واستجابتهم للأحداث بطرق متماثلة، وتسمَّى أحياناً «بالحس المشترك». تلك الأنظمة المعقدة في شكلها الحيوي والثقافي تسمَّى من الناحية المعرفية «بالابستمية « والابستمية مصطلح أعاد استخدامه «ميشيل فوكو» لوصف تركيبة وأنظمة ومعايير زمانية ومكانية صاغت وشكلت العقل الغربي وكونته. والابستمية مصطلح يشير للمدخلات والقيم والمفاهيم والأطر والمكونات الثقافية والعقلية التي تسهم في إنتاج المعرفة «آليات إنتاج المعرفة «. إنَّ إنتاج المعرفة وامتلاك المجتمعات للعلوم ودخولها في عالم الإسهام والإنتاج المعرفي والعلمي لا يعود فقط لتوفر الإمكانات المادية وتشييد الجامعات وبناء المختبرات، وتحول المجتمعات من مستهلكة إلى منتجة على المستوى المعرفي والإنتاج الصناعي والتقني يجب أن يسبقه تحول في مدخلات المنظومة الفكرية والثقافية والأطر المتحكمة في الإنتاج المعرفي. إذن التصورات الجماعية هي من يحدد قرب أو بعد مجتمع ما عن إنتاجه للمعرفة، وكل عقلية مرتهنة لمعطياتها التاريخية والثقافية. هناك منظومة جمعية على مستوى الشعور واللاشعور تتحكم في الإنتاج المعرفي. وفي المجتمعات العربية أنظمة ومبادئ وقيم وأبنية لاشعورية عطلت إنتاج المعرفة، و تتحكم فيها أنظمة الخرافة والممارسات الذهنية والفكرية والعلمية التي يغيب عنها استخدام المنهج العلمي، والمجتمعات العربية ترفض تطبيق المنهج العلمي من ناحية ومن ناحية أخرى تدعي أنها تطبقه في مجالات لا يمكن أن تقبل المنهج العلمي «الامبريقي» الذي يستمد مصداقيته من الأدلة والشواهد، وتحاول استخدام المنهج العلمي أحياناً لأهداف أيديولوجية وتغيبه متى ما شعرت أنه سوف يكشف عيوب ثقافية بنيوية. والمؤسف في الحالة الثقافية العربية أنَّك تجد مؤسسات أو قنوات ثقافية وإعلامية لا زالت تسهم في ترسيخ بنية ثقافية تنتج عقلية تمتلك آليات وأساليب معرفية ليس لها علاقة بالإنتاج المعرفي والعلمي، وتوسع مفاهيم الخرافة والوهم بهدف الكسب المادي.