كاتب ومستعرب ياباني، اسمه «نوبوأكي نوتوهارا» نشر قبل سنوات كتاباً صغيراً «العرب، وجهة نظر يابانية»، وحظي الكتاب منذ صدوره بمراجعات قيمة واستقبال حار.الكتاب جملة من الانطباعات والذكريات عن ملامح الحياة اليومية التي عاشها الكاتب في منطقتنا لأكثر من أربعين سنة، أغلب تلك الحياة عاشها في مصر لكن السنوات الطوال سمحت له بزيارة المغرب وسورية وفلسطين، وأن يعايش حياة البدو وأنماط حياتهم عن قرب وأن يكتب عن ما تعلمه منهم أو من رواة حياتهم: مثل الروائي الليبي إبراهيم الكوني. وأعتقد أن أحد أسباب مقروئية هذا الكتاب، فضلا عن لغته البسيطة والطازجة، هو انجذابنا إلى من يقرأ شخصياتنا وتقاليدنا وأنماط تربيتنا التي تنعكس كسلوك اجتماعي عام، وخاصة حين تكون العين القارئة عيناً أجنبية، أكثر حياداً وموضوعية، وأكثر اصطياداً للمفارقات الفاقعة التي تكشف الهوة السحيقة بين المثل العليا في الحياة وبين ممارساتنا اليومية التي لا تنتمي إلى تلك المثل بأي حال.يروي نوتوهارا موقفاً طريفاً نعيشه كل يوم، لكننا لا نتوقف عنده. دعاه أحد أصدقائه العرب لزيارته في منزله، وعندما بلغ الكاتب حي المضيّف فوجئ بالفضلات والنفايات والزبالة وهي تنتشر بعشوائية أمام العمارة التي يسكن فيها صديقه. لكنه ما إن دخل عتبة دار المضيف وأغلق الباب على العالم الخارجي حتى بهرته نظافة الشقة وأناقتها والراحة التي تبثها في نفس زائريها. هل يعيش الناس هنا بنفوس منقسمة؟ يقول نوتوهارا أن هناك تربية كامنة تنظر على ما يخص الملكية العامة وكأنها عدو، فينتقمون منها، وهكذا تجد كراسي الحدائق العامة مكسرة وصدئة، فيما دورات المياه العامة شديدة القذارة، وأضواء الشوارع محطمة. ويفسر الكاتب هذا السلوك نفسياً بالقول، إن المواطن العربي يقرن بين الأملاك العامة والسلطات الحكومية، ففي لا وعيه أنه حين يدمر تلك الممتلكات فإنه يعبر عن غضبه المكبوت تجاه الحكومات، ما يعني: أن المواطن يعتبر أن المؤسسات الرسمية عديمة الشعور بالمسؤولية تجاهه ما يحمله على الانتقام رمزياً منها. قبل فترة قصيرة، كنت أزاول المشي في حديقة عامة صغيرة لكنها منظمة من الداخل تتوسطها الأشجار وأعمدة الضوء والألعاب الصغيرة وبها أماكن للجلوس، مكان نادر في غابات الإسمنت التي تطوقنا. قلت لأطفال في سن المرحلة الابتدائية، كانوا يتوثبون لمغادرة مكانهم في الحديقة أن لا يتركوا قناني المياه والجرائد منثورة حول مقاعد جلوسهم. قال أحدهم: هل هي حديقتك؟ قلت له: إنها حديقتك وحديقتي ..! فأجاب: هذي مش حديقتي، إحنا نلعب فيها شوي ونروح. تجمع أصدقاؤه الثلاثة، وتبادلوا إشارات سرية أنبأتني أن عليهم أن لا يتحدثوا إلى غرباء، فرحلوا سريعاً إلى ضفة أخرى من الحديقة. حدقت فيهم وهم ينطلقون راكضين، فكرت في هذا المجتمع الغريب الذي لا يستمع فيه الأطفال إلى نصيحة أب عابر، وشابني بعض الذعر على مصير هذه الحديقة الباسقة ...!