حين التمعن في قراءة “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” لا يسعك إلا أن تُثني على من صاغه وقدّمه للبشرية بهذا النص الثري بما يحتاجه الإنسان من حريات في عصرنا هذا، التي تضمن له حين توفرها والالتزام بها، حياة كريمة لا تهيمن عليها سطوة الظلم والاستبداد. لقد استلهم صاغته الإرث الثقافي والحقوقي الذي راكمته البشرية خلال عقود عديدة في كفاحها من أجل الحرية والعدالة والمساواة وحياة خالية من القهر واستلاب الكرامة، فجاءت الديباجية والمواد الثلاثين “للإعلان” لتؤكد جميعها على حق الإنسان في العيش بحرية، وعلى أن الناس أحرار متساوون في الكرامة والحقوق. تتبوأ المادة ال18 أهمية خاصة بين منظومة الحقوق التي شملها “الإعلان” لارتباطها بحق الإنسان في حرية التفكير والضمير والعقيدة، إلا أن المادة ال19 التي تنص على أن (لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية)، لها قيمتها الفريدة، لما تحمله من أنسنة في التواصل مع الآخر دون المساس باستقلالية الخيار والقرار للفرد ككائن اجتماعي لا يمكنه العيش دون حرية الرأي والتعبير. إن تلاحق منجزات وابتكارات الإنسان العلمية والتكنولوجية، بما في ذلك عالم الاتصالات، بهذه الوتيرة العالية السرعة، قد أزاح تلك العوائق الجغرافية والقيود السياسية التي كانت تحدّ من الانتقال السلس للأفكار من بلد إلى آخر. وهو ما أتاح للإنسان أن يضطلع على الآراء والأفكار التي تنبثق في كل بقعة من بقاع العالم بسهولة ويسر لم يسبق للبشرية أن بلغتها من قبل، ويطبع حق حرية الرأي والتعبير بصفات إنسانية جديدة، تجعل من وضع القيود والموازين المحلية بأي صيغة وتحت أي مبرر أو تفسير تقنيناً لحق الإنسان في تكوين آرائه والتعبير عنها بالصيغ أو السبل التي يرتئيها مناسبة له ولما يريد إيصاله للآخرين. وعليه فإن نشاط المدونين على شبكة الإنترنت في التعبير عن آرائهم يعدّ حقاً من الحقوق التي تشملها هذه المادة، وأن محاسبتهم على مدوناتهم تحت أي غطاء، هو انتهاك للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. كما أن قيمة هذه المادة تأتي أيضاً من كونها أساساً تُبنى عليه حريات أخرى شملها “الإعلان”، فلا يُعقل، على سبيل المثال، أن تكون هناك منظمات مجتمع مدني وأعضاؤها مسلوبو حرية الرأي والتعبير ومحظور عليهم نشر آرائهم ومبادئهم أو تحجيمها بقيود تشريعية وأمنية. من الإنصاف القول إن هذا الحق قد أصبح من المسلمات في البلدان الديمقراطية، دون إلغاء أن هناك انتهاكات له تتم بين الحين والآخر، إلا أنها ليست كما يجري في بعض بلدان المنطقة، التي مازالت ممارسات انتهاكه تتم بشكل مباشر ودون اعتبار للالتزامات التي أوجبها عليهم توقيعهم على هذا “الإعلان”.