إسطنبول – مالك داغستاني • أهالي المدينة يحاولون هزيمة الاحتقان الطائفي لمواصلة الثورة على نظام الأسد • مؤيدو بشار في زيارته لبابا عمرو لم يكونوا إلا عناصر جمعها الأمن في حافلتين كنت أنوي مغادرة مدينتي حمص صباح يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شهر مارس الماضي، استيقظت على غير العادة متأخرا عن الموعد اليومي الذي اعتدته منذ بدايات شهر فبراير حيث اعتدت أن يبدأ نهاري مع أول قذيفة تسقط على حي بابا عمرو وفيما بعد على باقي الأحياء. كان القصف يبدأ عادة بين السادسة والنصف والسابعة صباحاً، في هذا اليوم ولأول مرة منذ ما يقارب الشهرين لم يكن هناك قصف وكان سكون مريب يخيم على المدينة، في نهاية النهار سأعرف أن رأس النظام بشار الأسد كان يقوم بزيارة تفقدية لحي بابا عمرو كما وصف الإعلام السوري تلك الزيارة، وسأعلم أيضا ومن مصادر قريبة من اللجنة الأمنية في المدينة أن لا أحد من المسؤولين المدنيين في المحافظة كان يعلم بتلك الزيارة حتى النصف ساعة الأخيرة ما قبل وصول الأسد للمدينة، حتى أن الرئيس الشكلي للجنة الأمنية في المدينة وهو أمين فرع المدينة لحزب البعث لم يعلم بالزيارة إلا بعد مغادرة الأسد لحمص، فقط المحافظ رافق الرئيس السوري في زيارته تلك التي استمرت دقائق معدودة حيث سار مسافة قصيرة بمواكبة أمنية حاشدة ومرافقة كاميرات الإعلام السوري وقطع المسافة بين جامع الجوري والمؤسسة الاستهلاكية، حيث سُمعت إطلاقات نار بعيدة جداً، فدفعه مرافقوه لركوب سيارته ومغادرة المدينة بعد أن تمَّ الأهم من هدف الزيارة وهو التصوير، قبل ساعة من الزيارة أحضرت أجهزة الأمن في حافلتين مجموعة من المؤيدين يرتدون الأزياء التي ستجعلهم يشبهون أهل الحي في لباسهم، ليقوموا أمام الإعلام بما يجب من إعطاء الإحساس بأن الشعب السوري يشكر رئيسه لتخليصهم من العصابات المسلحة، ويرد عليهم الأسد بأنه ستتم إعادة باباعمرو أفضل مما كانت وهم سعداء بكلامه ،وهذا طبيعي، فتلك المهدمة لم تكن بيوتهم. حمص «ثائرة» منذ البداية كانت حمص، ومنذ بدايات الثورة، أذهلت السوريين عندما ظهر على الإعلام العربي والعالمي في جمعة الكرامة في الخامس والعشرين من مارس 2011 ذاك الفتى وهو يعتلي باب نادي الضباط في المدينة ويمزق بقدمه صورة كبيرة تجمع الأسدين الأب والابن وسط ذهول السوريين من هذه السابقة التي لم يألفوها طوال أكثر من أربعين سنة، وسيلقب أهل المدينة ذاك الفتى ب»صاحب القدم الذهبية»، ثم عادت المدينة وأذهلت السوريين ثانية في الثامن عشر من إبريل 2011 حين نفذت أول اعتصام في الساحة الأهم في وسط المدينة إثر تشييع ستة من الشهداء من الجامع الكبير كانوا قد استشهدوا في اليوم السابق في باب السباع حي المريجة، يومها رأى العالم مشهداً يضم عشرات الآلاف وهم يهتفون لسقوط النظام، ذاك الاعتصام الذي انتهى في ذات الليلة، بمجزرة مازال أهل المدينة يتناقلون أرقاماً بالغة التناقض لأعداد ضحاياها غيرالمعروفين حتى اليوم والمحسوبين بين المفقودين، وهناك من تحدّث عن نقل الجثث إلى الشاحنات بالجرافات، وتناقل السوريون فيما بعد أن أوامر صارمة صدرت من القصر الجمهوري لتفكيك الاعتصام بأي ثمن كان، خشية انتقال العدوى للعاصمة دمشق. بقيت حمص تتابع التظاهر دون توقف، فهي تعيش منذ بداية رمضان الماضي، حيث تحول التظاهر إلى فعل يومي وليس أسبوعيا، تعيش إحدى حالتين إما مظاهرات حاشدة في كل الأحياء، أو قصف بالمدفعية وراجمات الصواريخ والهاون، وأحيانا كانت تجتمع الحالتان حين يكون القصف مركزاً على أحد الأحياء، وتكون المظاهرات محتشدة في باقي الأحياء، ومما ميّز المدينة مسارعة الشرائح الاجتماعية الموسرة مادياً للانخراط بالثورة إن كان بالمشاركة المباشرة في الفعاليات على الأرض أو المساعدات المادية التي كثيرا ما ساعدت على الاستمرار والمقاومة السلمية مما جعل المدينة إحدى أهم رافعات الحراك السوري والتي قادت المدن الأخرى للمثابرة مما أعطاها عن جدارة واستحقاق، وبرأي كل السوريين، لقب عاصمة الثورة السورية. كانت المدينة تفقد في كل يوم عددا من المتظاهرين السلميين، وتسارع إلى تشييعهم في اليوم التالي لتعود ثانية للتظاهر، اعتقلت السلطات السورية المئات من الناشطين المدنيين وكان من بينهم الناشط الحقوقي الأشهر في المدينة نجاتي طيارة والطبيب منصور العلي والطبيب علي ملحم والسياسي منصور أتاسي ومحمود عيسى الذي تكرر اعتقاله، وفيما بعد المحامي عمر قندقجي (أفرج عن الجميع فيما بعد وأعيد اعتقال محمود عيسى). وقتلت قوات الأمن المئات من المتظاهرين السلميين ولم ينج من القتل حتى مسعفي الهلال الأحمر حيث تعرّضت سياراتهم في كثير من المرات لإطلاق النار وفي إحدى هذه المرات استشهد المتطوع في الهلال الأحمر حكم السباعي، كما حاول النظام في تلك الفترة تهديد الناشطين في الخارج بأهلهم وكانت القصة الأشهر هو الاعتداء المخزي على والدي الموسيقي وعازف البيانو العالمي مالك الجندلي الذي ألف أغنية لحرية سوريا، في منزلهما وتركهما مضرجين بدمائهما والكدمات على وجهيهما وهما عجوزان، فعل النظام كل هذا ولم تهدأ الثورة في المدينة. على العكس مما سعى إليه النظام كانت الثورة تتصاعد باستمرار لتعم كامل أحياء المدينة وريفها بعد أن قامت قوات الأمن منذ الشهور الأولى بنشر الحواجز الأمنية لتمنع وصول المتظاهرين من حي لآخر ولمنع المواطنين من التجمُّع في مظاهرة واحدة يصعب السيطرة عليها، وسرت شائعة في المدينة تقول إن هذه الخطة لتقسيم المدينة إلى مربعات أمنية هي مستوردة من إيران. حمص كانت من أولى المدن التي انتفضت لمواجهة النظام، ففي الثامن عشر من مارس خرجت فيها المظاهرة الأولى من مسجد الصحابي خالد بن الوليد وشارك فيها المئات وتمَّت مهاجمة المتظاهرين بأعداد هائلة من قوات الأمن (المخابرات الجوية) واعتقلت حوالي خمسين متظاهرا ما لبثت أن أفرجت عن معظمهم بعد عدة أيام، في ذاك اليوم خرجت في سوريا للتظاهر أربع مدن هي درعا ودمشق (الجامع الأموي الكبير) وحمص وبانياس، ومنذ ذلك اليوم لم تعرف المدينة الهدوء في أي يوم جمعة، وبعد بداية رمضان في أي يوم على الإطلاق. وبدأ عنف النظام يتطور من أسبوع لآخر، فبعد الشهيدة الأولى في حمص تهاني خلف الخالدي (23عاماً) التي استشهدت يوم الأول من إبريل العام الماضي، حيث تمَّ إطلاق النار عليها وهي تصور التظاهرة من على شرفة منزلها، ما لبث عدد الشهداء يتزايد من أسبوع لآخر، في يوم السبت الواحد والعشرين من مايو 2011 تناقلت وكالات الأنباء صور 11 شهيدا سقطوا وهم يشاركون في تشييع شهداء يوم الجمعة (جمعة آزادي). كان النظام قد بدأ يتخوَّف من مشاهد الجنازات التي كانت تتجمع وتتحول فوراً إلى مظاهرة جديدة، فأراد إرسال هذا التحذير القاسي ليجعل أهل المدينة يكفُّون عن المشاركة في التشييع، لكن في اليوم التالي خرج أكثر من مائة ألف في تشييع ضحايا ما عُرِفَ بمجزرة تل النصر، وهو اسم مقبرة المدينة الرئيسية. حاول النظام بكل الوسائل وقف التظاهرات عبر رفع مستوى العنف واستخدم لتحقيق هذا الهدف حتى القنابل اليدوية المسمارية، حيث أرسل شبيحته في السيارات لأماكن التظاهر في الأحياء لرمي هذه القنابل والفرار مما كان يتسبب في سقوط عديد من الشهداء وأعداد كبيرة جداً من الجرحى، ومن ثم إطلاق إشاعات مدروسة كان الإعلام الرسمي وشبه الرسمي (قناة الدنيا وشام إف إم) يعمل على تمريرها من مثل إقامة إمارة سلفية في حي باب السباع ورفع العلم الإسرائيلي في الحي، لتبرير هجوم بالغ العنف على الحي في الثاني والعشرين من شهر مايو وتخريب العديد من الممتلكات وإسقاط العديد من الشهداء، وبعد هذه الحادثة سيعتاد السوريون المرور على هذه القنوات الفضائية فقط ليعرفوا من خلال الأكاذيب التي تسوقها نوايا النظام المنتظرة. بدء انشقاق الجنود عن نظام الأسد هذا المستوى من العنف ترافق مع انشقاق الكثير من الجنود عن الجيش ورفضهم لأوامر القتل وبدأ هؤلاء الجنود إضافة لبعض المتظاهرين الذين يمتلكون سلاحاً شخصياً في حمله وإخفائه تحت ثيابهم أثناء الخروج للتظاهر، ثم ليتطور هذا الأمر ليسمَّى فيما بعد بظاهرة حماية التظاهرات مما ردع فعلاً قوات الأمن والشبيحة عن الاقتراب من المتظاهرين ليتابعوا إطلاق النار على التظاهرات من مسافات بعيدة. كان وضع المشافي الحكومية عند بدء وقوع الإصابات في صفوف المتظاهرين مثار جدل بين أهالي المدينة حول ما يمكن أن يحدث للجرحى لو دخلوها، وبدأ الشك في سلوك الأطباء والمسعفين في تلك المشافي مع المتظاهرين المصابين، ثم ليتحول هذا الشك إلى روايات أكَّدها العديد من الجرحى ووثَّقتها فيما بعد المنظمات الإنسانية، هذا السلوك الذي كان يبدأ بضرب المتظاهرات وإهانتهن لتنتهي بحالات تعذيبهن وتسليمهن لقوات الأمن، فامتنع الناشطون عن نقل أي مصاب للمشافي الحكومية، لتتحول مسألة نقل المصاب إلى مشفى أهلي لمغامرة محفوفة بالمخاطر بدءاً من إمكانية الوصول إلى المشفى دون المرور على الحواجز الأمنية وانتهاءً بمراقبة المشفى لتهريب المصاب عند وصول دوريات الأمن لمداهمة بعض المشافي التي عُرِفَت بمساهمتها في إسعاف الجرحى كمشفى جمعية البر ومشفى الحكمة ومشفى الأمل. وفي حالة مشفى الحكمة في حي الإنشاءات قام الأمن بقصف المشفى ومن ثم اقتحامه وتدمير تجهيزاته، لينتقل بعد ذلك علاج المصابين في منازل خُصِّصَت لهذا الغرض والتي ستسمى على ضعف وبساطة تجهيزها (مشافي ميدانية). بعد فترة من استمرار الانشقاقات في الجيش وتمركز هؤلاء المنشقين في بعض أحياء المدينة، إضافة للبعض من أهالي الأحياء المدنيين الذين يمتلكون سلاحاً أو تدبروا بوسائلهم هذا الأمر، صار من الصعب على دوريات الأمن دخول عدد من الأحياء، هذه الدوريات التي اعتادت طوال أكثر من أربعة عقود الوصول إلى أي مكان وانتهاك الحرمات والاعتقال دون أي ردة فعل تذكر، عند هذا التحوُّل المحرج للنظام وقواته الأمنية ابتدأت حالات محدودة لرمي الأحياء بمدفعية الهاون، أو قذائف ال (آر بي جي)، ترافقت مع شائعات (ما لبثت أن تحوَّلت لحقائق) عن اختطاف نساء من الأحياء كان عناصر الشبيحة بتوجيه من قوات الأمن يقومون بها. وجاءت قصة زينب الحصني (الملتبسة حتى اليوم) حيث استدعت الأجهزة الأمنية ذويها لاستلام جثة ابنتهم المخطوفة وأجبرتهم على توقيع أوراق تفيد بأن العصابات المسلحة قد قتلت ابنتهم (وهذا شرط أساسي لكل من يريد استلام جثة شهيد من مشافي النظام)، وعادت قنوات النظام لتجري مقابلة مع زينب الحية لتكذب إعلام المعارضة والفضائيات التي أوردت هذا الخبر، دون أن يجيب النظام على أي من التناقضات التي اكتنفت هذا الملف الغامض وعن المصير النهائي لهذه الفتاة. وما لبث أن تحول الاختطاف إلى خبر يومي يتداوله أهل المدينة، ولينتقل فيما بعد إلى الخطف والخطف المضاد ولم يعد يقتصر على النساء، وبدأت المساومات على تبادل المختطفين غالباً على أساس طائفي. ظهور فدوى سليمان قلل الاحتقان الطائفي في تلك الفترة ظهرت في المدينة وعلى نحو فاجأ النظام والأهالي معاً الفنانة السورية فدوى سليمان، ظهرت في مظاهرات المدينة تشارك حارس مرمى منتخب شباب سوريا لكرة القدم عبد الباسط ساروت، هذا الشاب الذي تحوَّل إلى واحد من أهم رموز الثورة والذي ألهم الشباب السوري على امتداد سوريا، تشاركه الهتاف وقيادة المظاهرات وهي تنتمي للطائفة التي يفترض النظام أنها داعمة له، هذا الظهور إضافة لتجمُّعات شبابية من مختلف الطوائف والأديان كانت تشارك في الحراك في مختلف أحياء المدينة، خفف كثيراً من الاحتقان الذي كان قد بدأ يظهر بين المتظاهرين لاعتقادهم أن كل الشبيحة والقتلة ينتمون لتلك الطائفة ( وهذا كلام غير دقيق)، مما جعل النظام الذي طالما عمل بدأب على إذكاء الفتنة الطائفية يجاهد لاعتقال فدوى سليمان لكنه لم يفلح حيث احتضنتها أحياء المدينة وحمتها، إلى أن وصلت فيما بعد إلى باريس مروراً عبر الحدود الأردنية. في الثاني من فبراير 2012، وقع أول قصف شديد ومركّز على حي من أحياء المدينة وهو حي الخالدية الذي استعصى على النظام وما زال حتى اليوم، هذا الحي الذي نفَّذ اعتصامين متتاليين الأول في نهاية شهر ديسمبر 2011 مترافقاً مع قدوم أعضاء من لجنة المراقبين العرب للمدينة حيث قام النظام، وسط دهشة السوريين، بتغيير اللون العسكري للمدرعات وناقلات الجنود إلى الأزرق والأبيض وكتب عليها عبارة (قوات حفظ النظام) وأعطى العناصر الأمنية والعسكرية بطاقات هوية جديدة تشير لانتمائهم إلى وزارة الداخلية بدلاً عن بطاقاتهم الأمنية والعسكرية، واعتصام آخر في الشهر الأول من عام 2012، ذهب ضحية هذا القصف على حي الخالدية عشرات الشهداء خاصة من المسعفين الذين تلقوا قذيفة في المكان الذي كانوا يحاولون فيه نقل الشهداء وإسعاف المصابين. وفي هذا القصف استُشهِد الناشط الإعلامي مظهر طيارة، وهو طالب في السنة الأخيرة في كلية الهندسة المدنية، والذي لم يكن اسمه متداولاً شعبياً قبل استشهاده بسبب نشاطه الذي كان سرياً لنقل أخبار المدينة إلى وكالات الأنباء العالمية. هذا ما جرى في بابا عمرو لم يمضِ سوى يومين على هذا الهجوم ليعود النظام ويبدأ هجوماً عنيفاً على حي بابا عمرو الذي مهَّد له بحصار خانق للحي من كل الجهات بعد حفر خندق بعمق ثلاثة أمتار جنوب الحي، اعتقد سكان المدينة أن هذا القصف سينتهي في ذات اليوم، لكن فيما بعد سيربطون بين بدء هذا الهجوم والفيتو الروسي وزيارة لافروف لدمشق بعد يومين ليتداولوا فيما بينهم أن هذا القصف العنيف هو نتيجة تفاهم روسي مع النظام وضوء أخضر لتصعيد الحل الأمني والعسكري. زيارة بشار الأسد الأخيرة إلى حي بابا عمرو (الشرق)
استمرار القمع أدى لتسلح ثوار حمص .. وفي الإطار الفنانة العلوية فدوى سليمان (الشرق)