عرفت الأغنية الشعبية منذ عقود طويلة طاهر الأحسائي كصوت طربي مليء بالشجن، قضى عمره في تقديم أغنية تطرب أهل الأحساء، ومحبيه في الخليج. ورغم أنه غادرها في سن مبكرة إلى مدينة الدمام، هرباً من الضغوط الاجتماعية التي يواجهها الفنان آنذاك، إلا أن «المبرز» لاتزال تسكن قلبه وصوته، فلم يبتعد عن أهلها في المناسبات، التي شاركهم أغلبها. وبعد غياب طويل عن محبيه، بدأت الظنون حول اعتزاله تظهر على السطح. ورغم سوء حالته الصحية، حرص الأحسائي على تلبية دعوتنا لمحاورته في بيته، ففتح لنا قلبه بأغنية «يا دار» مع عوده العراقي الذي يحتفظ به منذ أكثر من ثلاثة عقود: * متى عرفت أنك ستسلك طريق الفن؟ - يا ابني! الشيب جنى علي، وما عدت أذكر التواريخ. * قل لي ما تتذكره من تلك الأيام؟ - كل ما أذكره أنني منذ كنت في عمر 13 سنة كنت «أطبل» دائماً على (طاسة) وأنا أغني. وأذكر أيضاً أنني كنت أختبئ تحت عباءة الوالدة إذا ذهبت إلى عرس، لأن الدخول إلى صالة الحريم كان ممنوعاً عندنا في الأحساء. وفي العرس كنت أحفظ كلمات الأغاني التي تغنى، وإذا رجعت إلى البيت أردد تلك الأغاني. * هل واجهت ضغوطات من الأهل في ذاك الوقت؟ - نعم، وكانوا يعادون أي شخص يغني، ولو كان والدي حياً، عليه رحمة الله، ما كان سمح لي بالغناء. * هل تتذكر شيئاً من تلك الأغاني التي حفظتها وأنت مختبئ تحت عباءة الوالدة؟ - يا دودحية يا موتر جديد/ ضرب الخناجر ولافرقا الحبيب * بعد فترة من الحياة مع الأهل في المبرز، تركتها وذهبت إلى الدمام، ما سبب تركك للأحساء؟ - يقول الشاعر: «بعض العرب قلبه على الغش ذاري/ عقرب ثرى وهو معك مثل الإخوان/ الله يصبرني على حُر مالي/ وأنا قلبي من الهم مليان». – الأحساء بلدي، لكن بعض الناس آذوني، فذهبت إلى الدمام، فعرفني الناس هناك وعرفتهم، وأحبوا أغنياتي. والسبب الثاني هو أن «الهيئة» ضايقتني كثيراً، وفي أكثر من مرة استدعوني. * هل جئت إلى الدمام لوحدك؟ - كان معي ابني علي، وابنتي الكبيرة، وزوجتاي الاثنتان. * ماذا عن حياتك الزوجية؟ - لدي الآن 14 ابناً وابنة من زوجتيَّ، والثانية طلقتها لأنها نسيت كل ما قدمته لها، وبقيت الأولى، وهي «أم علي» معي حتى الآن. * مَنْ من الفنانين الذين التقيت بهم عند قدومك إلى الدمام؟ - لم يكن هناك فنانون في الدمام، وقمت بتدريب الهواة حتى أصبحوا فنانين، مثل علي الطويل، وحمد المرزوق. * وما هي أول آلة فنية حصلت عليها؟ - كانت «مزمار» خشب من البحرين، أوصيت في طلبه أحد المسافرين، فأحضره لي. * وماذا عن أول عود اشتريته؟ - في إحدى زياراتي للأحساء قابلت المطرب عبدالله العماني، وطلبت منه أن يساعدني في الحصول على عود، فقام بعرض أحد الأعواد التي يمتلكها عليَّ فاشتريته، ودفعت له 280 ريالاً. وعلى الرغم من أن المبلغ كان كبيراً بالنسبة لي في ذلك الوقت، إلا أن المشكلة الكبيرة التي واجهتني هي كيفية نقله إلى الدمام، فحمل العود كان ممنوعاً في تلك الأيام. ثم اتفقت مع أحد السائقين الذين يقومون بنقل الركاب إلى الدمام فأوصله بسيارته إلى الدمام. * قبل العود قمت بصناعة «سمسمية»، فماذا تذكر عنها؟ - مثلما قلت لك، كنت مولعاً بالفن، وقبل شرائي أول عود، قمت بصناعة السمسمية بيدي. * ومن هم الفنانون الذين تأثرت بهم في بداياتك؟ - مطلق الدخيل، وعبدالله العماني، وضاحي ومحمد فارس. * هل وجدت أنك كفنان ستستطيع تقديم ما لديك بشكل أكبر في الدمام؟ - أكيد، كانت هناك (الدور الشعبية)، وهي بمثابة بيت فني يجتمع فيه الفنانون ويلتقون، وهي تنظم لهم المشاركة في المناسبات الوطنية والاجتماعية، وتهتم تلك الأماكن بالفنون الشعبية، مثل (الفجري، والقادري، والغوص). * بعض من حضر الأعراس التي كنت تحييها تلك الأيام كان يقول إن عيسى الأحسائي كان يقوم بتغطية مكبرات الصوت حتى لا يسمع الآخرون صوتك، هل هذا صحيح؟ - الجهَّال كانوا يحرضونه على محاربتي، وكان مع الأسف يسمع كلامهم، وما لا يعرفه الناس أنني أعتبر عيسى الأحسائي أكثر من أخ، وهو اعترف بوجود من كانوا يحرضونه على ذلك. * لكنْ توجد كثير من القصص عن الخلافات بينك وبينه؟. - أنا رجل مسالم، وكنت أزوره في بيته، وأجلس عنده لأيام، فهو رجل خير، وبعد فترة عرف أن هناك مَنْ يريدون بنا الشر، فتركهم، والأخوة بيننا ما لها حد. * الأغنية الشعبية في هذا الوقت شبه مفقودة، فما سبب ذلك؟ - الأغنية الشعبية مفقودة مع الأسف، ومسؤولية ذلك تقع على عاتق جمعية الثقافة والفنون، فهذا دورها، والمفروض أن تبحث عن الفنانين الشعبيين وتهتم بهم، وتسجِّل أعمالهم، وتحتضنهم، حتى لا يضيع هذا الفن. * والإعلام، هل تظن أن له دوراً في الاهتمام بالفن الشعبي؟ - دوره مهم بالتأكيد، لكن التلفزيون أول جهة تجاهلتني كفنان، وعلى طول مسيرتي الفنية لم أظهر في التلفزيون السعودي، ولو مرة واحدة، في حين أن القنوات الخليجية دائماً تهتم بي، وتستضيفني، وتسجل لي بعض الأعمال، وهذا دليل على أن «تلفزيوننا» ما فيه خير، ولا أعرف ما سبب إهماله لي، وللفنانين الشعبيين الآخرين. * هل ترى أن هناك اهتماماً بالفنان الشعبي في دول الخليج؟ - في الإمارات هناك تقدير لهذا الفن، والذين اقترحوا علي أن أذهب إلى هناك كثيرون، وأنا رفضت لأنني لا أريد أن أترك بلدي وأهلي من أجل المادة، ولن أموت إلا بأرضي. * الأغنية الشعبية دائماً ما تكون معرضة للسرقة، فما سبب ذلك في رأيك؟ - لا يوجد لدينا حفظ، ووزارة الإعلام مع الأسف لا تهتم بتسجيل القصائد والألحان الشعبية. * هل تعرضت أعمالك للسرقة من قبل؟ - أغانٍ كثيرة، وواحدة منها أخذها الفنان عبدالله الرويشد، وهي أغنية قديمة. * هناك موضة تجديد الأغاني الشعبية وتسجيلها بأسلوب حديث، فما رأيك بهذه الطريقة للحفاظ على استمرار الأغنية الشعبية؟ - طريقة جميلة وممتعة، لكنها تحتاج إلى مادة بالنسبة لي، ومبالغ عالية، وليس هناك من يدعمني. * تم تكريمك مؤخراً في جمعية الثقافة والفنون بفرع الدمام، فهل لديك خطوة فنية مقبلة بعد هذا التكريم؟ - أنا كبير في السن، والمرض أتعبني، ولا أظن أنني قادر على تقديم شيء، وطول الفترة الماضية أهلي كانوا زعلانين مني لأني أغني. * لم تستقر في وظيفة تؤمن لك دخلاً ثابتاً، فهل يعتبر الفن مصدر دخل جيد لك؟ - عملت في بداية حياتي سائقاً لفترة بسيطة جداً في إحدى الشركات، وبعد هذا تفرغت للغناء، الذي لم يؤمن لي دخلاً مناسباً، والبركة في جمعية البر، فهي التي تصرف علي، ومثلما قلت لكم «الفنان ما في أحد يهتم به ويرعاه»، وقبلها كنت أصلح وأبيع الأعواد، فكنت أشتري العود وأكسب فيه أي شيء. * هل ترى أن أحد أبنائك يريد اتباع نهجك الفني، ومواصلة مسيرتك؟ - أبنائي علي وأحمد وفيصل عندهم ميول فنية، وأنا أشجعهم، ولا أستطيع منعهم، وأتمنى لهم التوفيق، وأن يكونوا أفضل مني في هذا المجال. طاهر الأحسائي خلال حديثه ل «الشرق»
طاهر الأحسائي خلال حديثه ل «الشرق»
طاهر الأحسائي
طاهر الأحسائي يعزف على عوده العراقي (تصوير: فيصل الجاسم)