قبل سنوات دخلت في نقاش مع أحد الأشخاص في جزئية من التاريخ الحديث، وكنت حينها أؤمن بأنني قد قرأت التاريخ بشكل جيد على عكس الشخص الآخر الذي كان لا يعرف إلاّ جزئيات منه كما كنت أعتقد. فكنت متعالياً في تنظيري وغير راغب في الاستمرار في هذا النقاش مع هذا الجاهل (كما كنت أهمس في نفسي)، وكلما تحدث عن نقطة أوردت له الأحداث والتواريخ (من طرف خشمي) فيلتزم الصمت. أدرك صاحبي أن لا جدوى من الحوار معي، فقال لي «لن أناقشك ولكنني أطلب منك فقط أن تضع هذه الكلمة على محرك البحث وتقرأ». فقط لا غير، وأعطاني الكلمة. عدت إلى البيت، فتحت الجهاز، وضعت الكلمة في محرك البحث، ضغطت إنتر (وأنا أتخيل محدثي الجاهل وابتسم). فتحت الصفحة، قرأت وتخيلوا ماذا قرأت؟ قرأت جهلي وغبائي وغروري. شعرت لحظتها بأنني أغبى شخص على وجه هذه الأرض. نعم كل الأحداث والتواريخ التي كنت أحفظها صحيحة قرأتها بعينّي الاثنتين، ولكن ما وراء هذه الأحداث قرأته بعين واحدة فلم أعرف الحقيقة كما يجب، لأن العين الأخرى كانت مضللة فضللت عقلي وصنعت مني مجرد طبل كبير أجوف (خطيرة هي الرؤية بعين واحدة، والأخطر منها إن لم نكن نؤمن بأن لكل شيء زوايا رؤية مختلفة وللناس عيون). ومنذ ذلك النقاش وأنا أشعر بامتنان كبير لصاحبي وفي المقابل أبحث عن ماهيّة النقاش بشكله المجرّد وماهيّة الاختلاف فيه. مما لا شك فيه أن النقاش الفكري أياً كان هذا النقاش، هو فضاء واسع من الأطروحات ووجهات النظر وزوايا الرؤية المتباينة والمتداخلة والمتقاطعة في مجملها. وفي الغالب فإن هذه الأطروحات/ الحوارات المتصارعة أو المتلاقحة (أياً كانت)، تختلف أو تتفق من حيث منطلقاتها الفكرية والثقافية والاجتماعية ومن حيث أهدافها الفكرية والثقافية والنفسية أيضا. وبالرغم من هذا التشعّب في مكوّنات ومكنونات النقاش/ الحوار من حيث المنطلقات والأهداف وحتى من حيث النوعية، سواء كانت سياسيةً أو دينيةً أو اجتماعيةً أو أدبية ولا حتى من حيث اللغة الحوارية أو المضمون سواءً كان ثرياً بالمعنى والقيمة أو فارغا تافها بلا قيمة، فإن هذا النقاش هو فضاء مهما بلغ اتساعه يبقى محصوراً بين حدين لا ثالث لهما، هما الاتفاق المطلق أو الاختلاف المطلق، ويوجد بينهما (أي حدي الاتفاق والاختلاف) مساحة واسعة من وجهات النظر المتفقة والمختلفة جزئيا أو تلك الحيادية التي برغم كونها تتباين من حيث نسبة اتفاقها أو اختلافها أو حياديتها فإنها تدور في دائرة الاتفاق والاختلاف من حيث المجمل. وبناءً على ما سبق، فإن النقاش يعتمد من حيث امتداده واتساعه من جهة، وعلى غزارته بالمعلومات من جهة أخرى (مع الاتفاق سلفاً على أهمية ذات الموضوع) على درجة ونسبة الاختلاف الذي يثيره هذا الموضوع، وأخيرا وهو الأهم على طريقة التعاطي مع نسبة الاختلاف التي سيحتويها في طياته وكمية وجهات النظر المختلفة والمتحاورة تحت مظلته، بكل منطلقاتها وزوايا الرؤية التي تحملها وكم المعلومات (التي قد تكون جديدة على الآخر) التي قد تدعم أو تنفي رؤية ما على حساب الأخرى. ومن هنا يكون الاختلاف (في جانبه المشرق) محوراً معرفياً مهماً يجعل من النقاش أداة ثقافية وتعليمية بالغة الثراء، متى ما التزم المناقش بالموضوعية في طرحه وتحرى البحث عن المعرفة المجردة في نقاشه وابتعد عن صوت وماهية ال «أنا» و الآخر في حواره. الجانب الثاني والبالغ الأهمية برأيي الذي قد لا يعيه أحد أطراف النقاش أو كليهما على الرغم من أهميته وخطورة تداعياته الاجتماعية والثقافية، هو القارئ أو المستمع القابع خارج النقاش والمحرك الرئيس له بطريقة غير مرئية في الغالب. فهذا القارئ على قدر تأثره بما يدور من حوار فإنه يؤثر بكيفية هذا الحوار من خلال تأثيره النفسي الصامت على أطرافه. ومن هنا تكمن قيمة تأثيره على حوار قد لا يعي هو ذاته مدى المساحة التأثيرية التي يحتلها منه. فمتى ما التزم هذا القارئ في حيادية رؤيته وتقييمه، وحاول ممارسة البحث عن المعلومة الصحيحة والاستفادة الذاتية البحتة وابتعد عن الآراء والأفكار والتصورات الشخصية المسبقة عن الشخصيات المتحاورة المضللة لرؤيته إلى لب الحوار وبالتالي حجم الفائدة وماهيتها، عندها وعندها فقط ندرك جميعاً جمال الاختلاف وثراءه وانعكاساته الفكرية المهمة.