قبل عدة سنوات كان يعمل معي أحد المهندسين السعودين المتميزين، وكنت أعتمد عليه وأفوضه للقيام ببعض المهام، إلا أنه كان يستغرق وقتاً طويلاً عند كتابة أي رسالة أو تقرير بالرغم من براعته وكفاءته في الكتابة، والسبب هو سعيه للكمال لكي يتم التوقيع مباشرة على ما يكتبه دون إجراء أي تغيير. في أحد الأيام ذهبت إلى مكتبه وبعد أن أثنيت عليه وعلى تميزه تناولنا مشكلة قلة الإنتاجية والتأخر في إنجاز المهام فأكد على أنه يحاول أن يكون التقرير كاملاً وشاملاً. فقلت له بعض الأمور تحتاج إلى دراسة هندسية تحليلية دقيقة نحتاج إلى قضاء الوقت الكافي للتأكد منها وتحري الدقة العالية، ولكن أحيانا نكون بحاجة لإرسال رسالة أو تقرير مختصر وسريع لايتطلب الكمال (100 %) بل يكفيني منك أنت 80 % بسبب جودة عملك. استغرب لسماع 80 %، وبعدها حاول التغيير وأحضر أول تقرير وهو متردد، وتلاه التقرير الثاني بعد فترة وكانا بمستوى توقعاتي فتم التوقيع والإصدار بالتجاوز عن بعض التغييرات لتعزيز الثقة بنفسه ولكي يشعر بالراحة. وبعد إنجاز عدد من المهام التي كانت متعثرة تحت يديه شعر بالراحة النفسية وبدأ يقيم ويقدر الوقت والجهد بنفسه حسب طبيعة العمل وأهميته وما يلبي التوقعات مع المحافظة على الجودة والمعايير المعقولة. ومثال آخر يتحدث أحد الآباء عن ابنته وتميزها وأنها لا تقبل بأقل من 100 % في دراستها إلا أنه أبدى معاناته من تدهور حالتها الصحية والنفسية بسبب بحثها الدائم عن الكمال والحصول على 100 % الذي انعكس على معظم جوانب حياتها. إنها لا تهنأ بمأكلها ومشربها وتقضي معظم وقتها معتكفة على المذاكرة ساهرة ليلها لتضمن أنها لا تواجه سؤالاً لا يمكنها الإجابة عنه، وتحزن حزناً شديداً عندما ينقص جزء من الدرجة عن المائة في إحدى المواد. وعلى ذلك فقس ممن يسعى ويبحث عن الكمال في شؤون حياته المهنية والعائلية والاجتماعية، محاولا بلوغ الكمال والوصول إلى القمة والمثالية والفوز والانتصار وتحقيق الأفضل دائماً في حياته. ذلك الشخص يتفادى النقد والاختلاف معه في وجهة النظر. وإذا لم يتحقق له ما يريد فلا يهنأ له عيش ويصاب بالكآبة والإحباط، وتنقلب حياته إلى جحيم وينعكس سلباً على صحته الجسدية والنفسية، وعلاقاته المهنية والأسرية والاجتماعية. مامن شك بأن الطموح والكفاح والسعي لتحقيق التميز وإنجاز الأفضل هو أمر جميل ومطلوب والتميز لا يعني الكمال. ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وآله-: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه». وقال المتنبي: إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم ولكن لايعني ذلك البحث عن الكمال والتأثر بمجرد الحصول على ما هو دونه، فالكمال هو لله جل وعلا. كل شخص عليه أن يسعى لتحقيق أهدافه السامية ويبذل قصارى جهده ويكافح ويثابر وبعد ذلك عليه التسليم والرضا والقناعة بما قدره الله. وعليه أن يتنازل أحياناً، ويغض الطرف، ويتكيف مع الوضع ويعيش الواقع، ولا يستسلم ويكون فريسة لهذا المرض الفتاك، ويعكر صفو عيشه ومن حوله، ويكون في حالة قلق وتوتر مستمر. يقول عالم النفس الكندي جوردون فليت «يختلف المُتوخُّون للكمال في سلوكياتهم؛ فبعضهم يسعى إلى إخفاء نواقصه، وآخَرون يحاوِلون إبراز صورةٍ عن كمالهم. لكنهم يشتركون كلهم في المعايير بالغة الارتفاع التي يضعونها لأنفسهم وللآخرين.»